عن إصلاح التعليم في تونس

27 مايو 2015

مبنى جامعة تونس المنار (الأناضول)

+ الخط -
لأن تراجع الشأن التربوي في قائمة اهتمامات الشعب التونسي، إبّان ثورة الحرية والكرامة، 17 ديسمبر/كانون الأول - 14 يناير/كانون الثاني 2011، لأسباب بديهية، أمام تصاعد الشاغل الأمني والاستقرار السياسي والمخاوف الاقتصادية، فإن جل التونسيين يتفقون، اليوم، بعد أربع سنوات ونيف على ضرورة إصلاح المنظومة التربوية، وفي أقرب الآجال. وكالعادة، اتفقت جميع الأطراف على ضرورة الإصلاح، إلا أنها لم تتفق بعد، لا على وجهته، ولا على رواده، ولا مقارباته، ولا الأنموذج الأمثل للقيام به.
وفي خضم هذا التردد العام والطبيعي، توجه مواطنون تونسيون عديدون صوب الإصلاح التربوي لسنة 1958، والذي أسس لمدرسة الجمهورية الأولى، مستأنسين به تارة، مدافعين عنه أخرى، فتغلبت على كثيرين رغبة جامحة في تقليد الرئيس، الحبيب بورقيبة، والدور الريادي الذي قام به. فهل سيكون الإصلاح التربوي للجمهورية الثانية على شاكلة إصلاح 1958؟ 
تجدر الإشارة إلى أن إصلاح 1958 جهد انخرط فيه السواد الأعظم من الشعب التونسي، وآمنوا به إيمانا عميقاً، لعدة أسباب، لعل أهمها سهولة مشروع الإصلاح ووضوحه. قد يعتقد بعضهم أن الرئيس بورقيبة فرض مشروع الإصلاح فرضاً، ولم يستشر أية جهة كانت، واكتفى برؤيته الخاصة به، وانبرى يقلد المثال الفرنسي، شكلاً ومضموناً ومناهج، لإرساء ملامح المدرسة التونسية العصرية، مرسياً معها ديكتاتورية "المحب لوطنه". لكن، سرعان ما يتبين المتمعن في مشروع الإصلاح غير ذلك. ولا أقول هذا دفاعاً عن بورقيبة وتأليها له، ولا كرها له وازدراء لجهوده، بل أسوق هذه الملاحظات من منطلق علمي بحت، لإنارة الرأي العام. فلبورقيبة، الرئيس الأول للجمهورية التونسية، ما له، وعليه ما عليه، ولا نحتاج، اليوم، لتقليده، بل نحتاج إلى ألف بورقيبة وبورقيبة، قيادات مبدعة في كل المجالات، تعمل لفائدة الوطن، بكل حب وإخلاص وتفان. 

يرتكز إصلاح 1958 أساسا على نشر التعليم وبناء المدارس في كل أنحاء البلاد، لتمكين كل أطفال تونس ممن يبلغون سن السادسة من حق التعليم المجاني، من دون تفرقة بين الذكر والأنثى، أو بين الفقير والغني، أو بين أطفال المدن أو القرى. ولا يزال البنك العالمي يذكر، إلى يوم الناس هذا، أن تونس هي أول بلد حديث الاستقلال يطلب قرضاً سنة 1958 لبناء المدارس، في حين كانت البلدان، آنذاك، تطلب القروض لبناء النسيج الصناعي، أو لمد شبكات الطرقات. كانت كل مدرسة تفتح أبوابها تطلق آمال كل التونسيين في تعليم أبنائهم تعليماً عصرياً، وفي ضمان تشغيلهم شغلاً، يعود عليهم بالنفع، وعلى عائلاتهم وعلى كل المجموعة الوطنية. ولكن المدارس الجديدة كانت، أيضاً، مصدر رزق للمواطنين، فهذا يشتغل في البناء، والآخر في النجارة والحدادة، والأخرى تحصل على وظيفة، مدرّسة أو عاملة نظافة أو غيره.
وفّر قطاع التعليم مواطن شغل لمئات العائلات التونسية، بل الآلاف منها، والتي تحولت، بفضله، من قطاع المهن الصغيرة الموسمية إلى قطاع الوظيفة العمومية، وفتح باب الأمل على مصراعيه لكل التونسيين في الحلم بغد أفضل، وكان لهم ذلك. من ذا الذي، يا ترى، كان سيعارض مشروعا ناجحا كهذا؟ ولسائل أن يسأل: ألم يقاوم عشرون ألف طالب زيتوني مشروع الإصلاح التربوي، بعد أن أغلق مشروع المدرسة الحديثة الجامع الأعظم، وألغي التعليم الزيتوني؟ لعل جزءاً منهم انخرط في المشروع الجديد، سواء كعاملين في قطاع التربية، أو منتفعين منه. يجب ألا ننسى أننا، بخلاف البلدان المجاورة لتونس، لم تستقدم البلاد مدرسي اللغة العربية، على سبيل المثال، من بلدان أخرى، للتدريس في المدارس التونسية، بل تمت الاستعانة بمدرسي الجامع الأعظم وطلبته.
كان مشروع إصلاح التعليم لسنة 1958 مشروعاً كمياً بامتياز، فهذه مدرسة تُدشّن، وهذا حجر أساسي لمعهد يوضع، وهذه انتدابات جديدة للعاملين في القطاع، باختلاف المستويات التعليمية. كان من السهل جدا على أي مسؤول أن يظهر إنجازات القطاع، ويفتخر بها. وكان من السهل جداً على كل المواطنين أن يؤمنوا بمشروع يرون آثاره تبرز، ومنافعه تتزايد يوماً عن يوم. نجح هذا المشروع في امتحان الثقة وبامتياز. ونجح هذا المشروع في اختبار الأمل وبامتياز.
والآن، بعد أكثر من نصف قرن على مرحلة الإنجاز الأولى، يواجه التونسيون جملة من التحديات لا تقل حجماً عن تحديات 1958، لكنها تختلف عنها اختلافاً جذرياً. لا يتوجب، الآن، بناء المدارس الجديدة، بعد إغلاق عدد لا بأس به منها، وتم تحويلها إلى مؤسسات أخرى، نظرا إلى تقلص عدد الأطفال في سن التمدرس، ولم يعد ممكناً انتداب المدرسين والإداريين والموظفين والعمال بالنسق نفسه الذي كان من قبل، على الرغم من إقبال أعداد غفيرة من خريجي التعليم العالي على هذه المهن، وانتظارهم دورهم في الانتداب مدة قد تبلغ سنوات عدة.
 
لم يعد باب الأمل مفتوحاً بعد أن أصبح خريجو التعليم العالي يواجهون صعوبات جمة في التشغيل، وأصبحت الشهادة الأكاديمية وحدها لا تكفي. لم يعد الولي يأتمن المؤسسة التربوية على فلذة كبده، بعد أن انتشرت المخدرات داخل أسوار المدارس، وتسلل إليها التطرف، وتنامى فيها العنف بكل أنواعه. لم يعد للمربي القيمة الاعتبارية نفسها التي كانت له من قبل، بعد أن حوله النظام القديم إلى أداة لتنفيذ قرارات الوزارة، لا مربياً يساهم في تنشئة الأجيال. لم يعد المتعلم يثق في المربي، بعد أن سُلعنت المواد، وطغت الدروس الخصوصية على ثقافة المدرسة، حتى أن تكلفتها أصبحت تنافس ميزانية الأكل لعائلات كثيرة ذوي الدخل المتوسط. هل من الممكن رفع أداء مدرسة اليوم بحلول الأمس؟
تواجه مدرسة اليوم في تونس التحدّي الكيفي بامتياز، ولا يسعها أن تتجاهله أكثر مما تجاهلته. يجب على كل العاملين والمنتفعين من التربية تقييم أداء المدرسة التونسية تقييماً علمياً، وأن ينظروا إلى كل المؤشرات بشجاعة، وأن يعملوا على تصحيح المسار بقوة، والرفع من جودة المخرجات، وإعادة الثقة في المدرسة التونسية. إنني متأكدة أن عديدين من متخذي القرار التربوي يشعرون بحجم مسؤولية التغيير التربوي، متهيبين كل خطوة يخطونها إلى الأمام، متخوفين من غضب شعب كَلَّ من الاتجار بأعز ما لديه. لا ولن أشكك لا في وطنيتهم، ولا في أخلاقهم، ولا في عزيمتهم. أقول لهم فقط: هل أنتم مستعدون لإصلاح جذري وشامل؟ هل أنتم واعون أن الإصلاح الجديد لن يكون مثل إصلاح مرحلة البناء؟ هل أعددتم العدة لمجابهة تحديات الجودة، وتحويل المدارس التونسية من مدارس فاشلة إلى مدارس ناجحة مجددة، تعمل على توفير المناخ الملائم للطفل، لينشأ نشأة سليمة، ويساهم في بناء غد أفضل له، ولعائلته، وللمجموعة الوطنية؟
6C6DA408-2816-4743-86BA-05E514DF1D82
روضة بن عثمان

أستاذة جامعية وناشطة تربوية تونسية