10 نوفمبر 2024
عن أي يمينٍ في فرنسا نتحدّث؟
أضحى من شبه المؤكّد أن الرئيس الفرنسي الحالي، فرنسوا هولاند، لن ينجح، إن خاض، الانتخابات الرئاسية المقبلة. وبعيداً عن العوامل المتشابكة التي تجعل هذا الاحتمال محسوماً، والمرتبطة أساساً بالأداء الاقتصادي المهجّن، ذات اليسار تارةً وذات اليمين تارة أخرى، يبدو أن الصراع على سدة الرئاسة، والذي ستجري دورته الأولى في 23 إبريل/ نيسان المقبل، سينحصر بين مرشحي اليمينين، التقليدي والمتطرّف.
وفي مناخٍ شعبويٍ عارم، يكتسح المشهد الدولي عموماً (بوتين الروسي ودوتيرتي الفيلبيني)، والأوروبي خصوصاً (أوربان الهنغاري)، والمؤهل للتوسع أميركياً إن فاز زير النساء والعقارات، دونالد ترامب، في انتخابات بعد غد الثلاثاء، وهو احتمالٌ ضئيلٌ لكنه ممكن، فإن المشهد الفرنسي الذي لا يخلو من خصوصية غنيٌ أيضاً بشعبوييه من أهل اليمين على تفرعاته، ومن أهل اليسار.
لقد تأبّط جزءٌ كبير من السياسيين التقليديين الشعبوية، وصاروا يتبارون فيما بينهم في من هو أكثر ميلاً وقدرةً على استحضار المشاعر "البدائية" للناس وتأجيجها. الإرهاب والهجرة مسألتان شكلتا حقلاً خصباً لكل من أراد الزرع والحصد فيه. ولم تنحصر هذه الظاهرة لدى أصحاب التوجهات اليمينية معروفة الموقف من "الآخر"، مهاجراً كان أم لاجئاً، بل تعدّتهم لتقتحم صفوف اليسار التقليدي، وتصبح مادة مبارزة خطابية أو إعلان مواقف متوترة أو اتخاذ إجراءات زجرية، تخاطب الناخب البسيط باتجاه تخوفاته، من دون السعي إلى جذبه باتجاه تفسيراتٍ عقلانيةٍ، بعيدة عن الإثارة الرخيصة.
وعلى أقصى اليسار، يتميّز جان لوك ميلانشون، وهو غوغائيٌ منشقٌ عن اليسار التقليدي، بمخاطبة الأحاسيس أيضاً ومجافاة العقول. وهو يتبنى خطاباً بافلوفياً بامتياز، ويُزيّنه بمفردات هجومية وشتائمية، لا تستثني أحداً. خطابٌ يُحاكي الشارع اليساري بلغةٍ تبسيطيةٍ اقتصادياً وسياسياً. أضف إلى أنه من أصدقاء مستبدي العالم، ويُمارس هوايته في شتم القائمين على السياسة الخارجية، والتي هي ربما الوحيدة الناجحة من مجمل السياسات الفرنسية، من خلال تقرّبه المشبوه مع قادةٍ لا يمتّون للديمقراطية بصلة، كالقيصر بوتين.
سيكون الفرنسيون إذاً على موعد لانتخاب، بالاقتراع المباشر، رئيس جديد في الانتخابات
الحادية عشرة التي تجري في ظل الجمهورية الخامسة التي أعلنت سنة 1958. وسيكون الخيار محصوراً، إلا إن وقعت معجزة، بمرشحي اليمين على تنويعاتهم. فحتى لو خاض هولاند الانتخابات، وهو المرجّح، فسيكون له موعدٌ مع الدورة الأولى فحسب. ويخشى المراقبون من أن نسبة 30% التي تشير إليها استطلاعات الرأي، بخصوص التصويت لليمين المتطرّف، قد تصبح حقيقة. وهي قد تجعل من مارين لوبين، رئيسة هذا الحزب المتطرّف، وصديقة طغاة العالم فكرياً وشخصياً، مرشحة تخوض الدورة الثانية، إن لم يتم الحسم في الدورة الأولى، وهو ما لا يتم عادة.
من سيواجه التطرّف اليميني الفرنسي المدعوم إعلامياً مباشرة ومادياً مواربةً عبر قروض من القيصر الروسي الذي يمد نفوذه عبر وسائل عدة في المجتمعات الغربية؟ تشهد الانتخابات التمهيدية في نطاق الأحزاب الرئيسية لاختيار مرشحيها على اليسار هدوءاً مشوباً بالحذر. أما يميناً، فهي تعوم في بحر هائج من المداولات والمواجهات والمناظرات بين ستة من الرجال وامرأة واحدة. يبرز من بين هؤلاء مرشحان اثنان، يبدو أن حظوظهما أكبر للوصول إلى الأدوار النهائية في هذه الانتخابات التمهيدية: رئيس الجمهورية الأسبق، نيكولا ساركوزي، ورئيس الوزراء الأسبق، آلان جوبيه.
ومن استطلاع "الإنجازات" التي عرفتها فرنسا في أثناء حكم ساركوزي الأول (2007 ـ 2012)، يبدو أن المنطق السليم يُشير إلى وجوب خسارته إمكانيات العودة. وعلى الرغم من أنه سبق وصرّح باعتزاله السياسة، إثر خسارته أمام هولاند سنة 2012، ولكن، كالعادة، فإن التزام السياسيين بوعودٍ من هذا النوع يدخل في خانة المستحيلات السبعة، إلا في استثناءات فرنسية قليلة، من أهمها، انسحاب الجنرال شارل ديغول من الحياة السياسية، بعد أن شعر
برفض شعبي لسياساته 1969، كما انسحاب مشابه لرئيس الوزراء الاشتراكي، ليونيل جوسبان، بعد أن فشل في انتخابات رئاسية سنة 2002. يبقى إذاً، ومنطقياً، أن المرشّح آلان جوبيه، وهو الذي شغل منصب وزير خارجية ساركوزي، وأبلى بلاءً حسناً، هو الأوفر حظاً.
لكن، من الذي قال إن المنطق هو الذي يتحكّم في مسارات الأمور عموماً، وفي السياسة خصوصاً؟ فركوب موجة الرهاب الإسلامي المرتبط بالهجرة وباللجوء، كما مداعبة مخاوف البسطاء من "غزو" ثقافي وهوياتي لجزيرتهم المعزولة، يبدوان كأنهما سلاحان فعّالان. في مناخٍ كهذا، يفيد هذا السلاح من يسعى إلى كسب أصواتٍ خائفة، واستغلال أزمة اقتصادية هيكليةٍ لا يفسرها إلا بطرح مسألة السيادة والانغلاق على عكس منطق الاقتصاد الحديث. وبالتالي، حظوظ جوبيه العقلاني الهادئ، والذي لا يبحث عن التخويف من الآخر، والذي لا يعتبر مسألة الهوية، بحد ذاتها، محوراً لبرنامجه، تبدو في تراجعٍ مستمر أمام منافسه، فالرئيس السابق ساركوزي يلعب على أوتار الخوف والريبة، كما أنه يستعمل شبكاته التمويلية لتعزيز فرص وصوله، على الرغم من فشله في سنوات حكمه في اجتراع أي حل للمشكلات الاقتصادية والأمنية، وعلى الرغم من تلطّخ عهده ببعض ملفات الفساد الشرس.
خلال أيام قليلة، سيتم اختيار مرشح اليمين التقليدي للرئاسة. الصراع القائم إذا هو بين المنطق والغوغاء. وغالباً ما يخسر المنطق أمام الغوغاء.
وفي مناخٍ شعبويٍ عارم، يكتسح المشهد الدولي عموماً (بوتين الروسي ودوتيرتي الفيلبيني)، والأوروبي خصوصاً (أوربان الهنغاري)، والمؤهل للتوسع أميركياً إن فاز زير النساء والعقارات، دونالد ترامب، في انتخابات بعد غد الثلاثاء، وهو احتمالٌ ضئيلٌ لكنه ممكن، فإن المشهد الفرنسي الذي لا يخلو من خصوصية غنيٌ أيضاً بشعبوييه من أهل اليمين على تفرعاته، ومن أهل اليسار.
لقد تأبّط جزءٌ كبير من السياسيين التقليديين الشعبوية، وصاروا يتبارون فيما بينهم في من هو أكثر ميلاً وقدرةً على استحضار المشاعر "البدائية" للناس وتأجيجها. الإرهاب والهجرة مسألتان شكلتا حقلاً خصباً لكل من أراد الزرع والحصد فيه. ولم تنحصر هذه الظاهرة لدى أصحاب التوجهات اليمينية معروفة الموقف من "الآخر"، مهاجراً كان أم لاجئاً، بل تعدّتهم لتقتحم صفوف اليسار التقليدي، وتصبح مادة مبارزة خطابية أو إعلان مواقف متوترة أو اتخاذ إجراءات زجرية، تخاطب الناخب البسيط باتجاه تخوفاته، من دون السعي إلى جذبه باتجاه تفسيراتٍ عقلانيةٍ، بعيدة عن الإثارة الرخيصة.
وعلى أقصى اليسار، يتميّز جان لوك ميلانشون، وهو غوغائيٌ منشقٌ عن اليسار التقليدي، بمخاطبة الأحاسيس أيضاً ومجافاة العقول. وهو يتبنى خطاباً بافلوفياً بامتياز، ويُزيّنه بمفردات هجومية وشتائمية، لا تستثني أحداً. خطابٌ يُحاكي الشارع اليساري بلغةٍ تبسيطيةٍ اقتصادياً وسياسياً. أضف إلى أنه من أصدقاء مستبدي العالم، ويُمارس هوايته في شتم القائمين على السياسة الخارجية، والتي هي ربما الوحيدة الناجحة من مجمل السياسات الفرنسية، من خلال تقرّبه المشبوه مع قادةٍ لا يمتّون للديمقراطية بصلة، كالقيصر بوتين.
سيكون الفرنسيون إذاً على موعد لانتخاب، بالاقتراع المباشر، رئيس جديد في الانتخابات
من سيواجه التطرّف اليميني الفرنسي المدعوم إعلامياً مباشرة ومادياً مواربةً عبر قروض من القيصر الروسي الذي يمد نفوذه عبر وسائل عدة في المجتمعات الغربية؟ تشهد الانتخابات التمهيدية في نطاق الأحزاب الرئيسية لاختيار مرشحيها على اليسار هدوءاً مشوباً بالحذر. أما يميناً، فهي تعوم في بحر هائج من المداولات والمواجهات والمناظرات بين ستة من الرجال وامرأة واحدة. يبرز من بين هؤلاء مرشحان اثنان، يبدو أن حظوظهما أكبر للوصول إلى الأدوار النهائية في هذه الانتخابات التمهيدية: رئيس الجمهورية الأسبق، نيكولا ساركوزي، ورئيس الوزراء الأسبق، آلان جوبيه.
ومن استطلاع "الإنجازات" التي عرفتها فرنسا في أثناء حكم ساركوزي الأول (2007 ـ 2012)، يبدو أن المنطق السليم يُشير إلى وجوب خسارته إمكانيات العودة. وعلى الرغم من أنه سبق وصرّح باعتزاله السياسة، إثر خسارته أمام هولاند سنة 2012، ولكن، كالعادة، فإن التزام السياسيين بوعودٍ من هذا النوع يدخل في خانة المستحيلات السبعة، إلا في استثناءات فرنسية قليلة، من أهمها، انسحاب الجنرال شارل ديغول من الحياة السياسية، بعد أن شعر
لكن، من الذي قال إن المنطق هو الذي يتحكّم في مسارات الأمور عموماً، وفي السياسة خصوصاً؟ فركوب موجة الرهاب الإسلامي المرتبط بالهجرة وباللجوء، كما مداعبة مخاوف البسطاء من "غزو" ثقافي وهوياتي لجزيرتهم المعزولة، يبدوان كأنهما سلاحان فعّالان. في مناخٍ كهذا، يفيد هذا السلاح من يسعى إلى كسب أصواتٍ خائفة، واستغلال أزمة اقتصادية هيكليةٍ لا يفسرها إلا بطرح مسألة السيادة والانغلاق على عكس منطق الاقتصاد الحديث. وبالتالي، حظوظ جوبيه العقلاني الهادئ، والذي لا يبحث عن التخويف من الآخر، والذي لا يعتبر مسألة الهوية، بحد ذاتها، محوراً لبرنامجه، تبدو في تراجعٍ مستمر أمام منافسه، فالرئيس السابق ساركوزي يلعب على أوتار الخوف والريبة، كما أنه يستعمل شبكاته التمويلية لتعزيز فرص وصوله، على الرغم من فشله في سنوات حكمه في اجتراع أي حل للمشكلات الاقتصادية والأمنية، وعلى الرغم من تلطّخ عهده ببعض ملفات الفساد الشرس.
خلال أيام قليلة، سيتم اختيار مرشح اليمين التقليدي للرئاسة. الصراع القائم إذا هو بين المنطق والغوغاء. وغالباً ما يخسر المنطق أمام الغوغاء.