"هذا مخرج يجب علينا التنبّه إليه". قول يتردّد في أوساط هوليوودية منذ أول روائي طويل له، بعنوان Amores Perros، المُنجز عام 2000 في بلده، المكسيك. هذا غير عابر. السينمائيّ المكسيكي أليخاندرو غونزاليس إيناريتو (1963) ـ الذي يترّأس لجنة تحكيم المسابقة الرسمية للدورة الـ72 (14 ـ 25 مايو/ أيار 2019) لمهرجان "كانّ" السينمائي ـ "يخترق"، منذ بداية عمله الإخراجي، أسوار هوليوود، مُحقِّقًا فيها إنجازات قيّمة، سينمائيًا وثقافيًا وإنسانيًا، يُكافأ عليها بجوائز "غولدن غلوب" و"أوسكار"، إلى قراءات نقدية رصينة.
لكن إنجازاته تلك لن تجد كلّها صدى إيجابيًا متكاملاً، كشأن كلّ إنجاز سينمائي يصنعه مخرجون لهم، في صناعة الصورة، تأثيرات مؤدّية إلى تطوير السينما وتغيير مساراتها وأحوالها وأساليب اشتغالاتها وتأمّلاتها. مع هذا، يبقى لإيناريتو مكانةً مفتوحة على الحياة والصدام مع تناقضاتها، وعلى الموت ومواجهة غموضه، وعلى أشباح الفرد وكوابيسه أيضًا.
يرى إيناريتو السينما "ثقبًا نُظهر عبره الحياة"، من دون التغاضي عن مسألة جوهرية، بالنسبة إليه: "نحن، في هذا الإطار، نُقدِّم 20 بالمئة فقط من الواقع، والباقي (80 بالمئة) عليكَ أنتَ أن تتخيّله، وهذا جميل، ويستمرّ حصوله منذ أكثر من قرنٍ" (حوار أجراه معه لوران كاربنتييه، منشور في الصحيفة اليومية الفرنسية "لو موند"، في 17 مايو/ أيار 2017).
هكذا يصنع إيناريتو سينماه، وهكذا ينشغل في هموم الفرد، وانقلابات روحه وألم جسده واختناق ذاته. يذهب بعيدًا في تفكيك الكيان الفردي، محاولاً كشف انزلاقاته ومتاهاته، وباحثًا في انفعالاته عمّا تعنيه تلك الانزلاقات والمتاهات. يُلغي المسافة بين عدسة الكاميرا وثقب الحياة، جاعلاً الأولى (العدسة) مرآة واقع، بكلّ ما في الواقع من متخيّل أيضًا؛ وصانعًا من الثاني (الثقب) مدخلاً إلى عوالم تكتنفها ظلالٌ وأوهام ومَواجِع.
اقــرأ أيضاً
والاختبارات التي يشتغلها في أفلامه ركن أساسيّ في تجريبٍ بصري أو تقني أو فني، كي يعثر على أنماط تعبير غير متشابهة. صدمة الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001 دافعٌ له إلى تمرين بصري سمعي يرتكز على اشتغالٍ صاخب على الصوت، ويستند إلى اهتزاز الصُور المنتقلة بسرعة بين سواد الشاشة وبعض ملامح الاعتداء الإرهابي على برجي "المركز العالمي للتجارة" (نيويورك)، كاستفزازٍ سينمائيّ يريده تحريضًا على إعمال العقل والانفعال معًا في مقاربة لحظة ستُبدِّل مسار التاريخ والعلاقات بين الدول والحضارات والشعوب والثقافات. شريطٌ قصير ضمن فيلم جماعي بعنوان "11 دقيقة و9 ثوان ولقطة"، يعكس شيئًا من تجريبٍ مكتفٍ بلقطات سريعة لأناس يرمون أنفسهم من أحد البرجين، وبملامح للمبنى تميل إلى اللون الداكن، وبتقطيع يحبس الأنفاس، وبأصوات تمزج أنين موت بصراخ ضحية وصخب صدمة.
اختبار كهذا جديدٌ في سيرة سينمائية لا تزال وتيرتها هادئة. "21 غرامًا" (2003) خطوة أولى إلى شهرةٍ تزداد حضورًا في المشهد السينمائي الدولي مع "بابل" (2006)، ثم "بيوتفيل" (2010) و"المنبعث" (2015). هذه نماذج مستلّة من لائحة متواضعة في الروائي الطويل والأعمال القصيرة. نماذج ينتقل فيها أليخاندرو غونزاليس إيناريتو بين شكلٍ يوحي بكلاسيكيةِ سردٍ، قبل أن ينكشف على غليان مشهديّ يكسر كلاسيكية الشكل ليروي فصولاً من سيرة فرد وتقلّباته. القصص العديدة في "بابل"، التي تلتقي قبيل انتهاء مروياتها، تعكس شيئًا من كيفية تحطّم الأحلام وانفلاش الخيبة والصدام مع الهوية والعلاقات والأقدار.
ولوج عالم الموت، مع ليوناردو دي كابريو، أساسيّ في "المنبعث" قبل انبعاث الفرد من موته وامتلاكه حياة جديدة. وهذا لن يحجب جمالية اللغة السينمائية المستخدمة في سرد حكاية تاريخية عادية، إذْ يُغامر إيناريتو في اختبار تصوير بأضواء طبيعية، ويدفع دي كابريو إلى أقصى الممكن في أداء باهر، تمامًا كأداء شون بن وبينيتشيو دل تورو (21 غرامًا)، في اختبار لعبة الأقدار، التي تشهد في "بابل" نموًّا سينمائيًا نواته الأصلية فاعلةٌ، جماليًا وإنسانيًا وفكريًا وتأمّليًا، في "21 غرامًا". أو كأداء خافيير بارديم السائر، هو أيضًا، بين ظلال الموت وأشباح الماضي، في رحلة يومية تأخذه إلى أبعد ما في الموت من تفاصيل ومسارات.
أما "بيردمان" (2014)، فالتماسٌ ملتبس ومعقّد بين الواقع والخيال، وبين المسرح والعيش على الحوافي القاتلة للحياة، وبين خيبات منبثقة من مواجهات غير منتهية بين الفرد وذاته. مسائل كهذه لن تبتعد كثيرًا عن عالم الاستعراض والفنون في برودواي الأميركية، التي تجبلها بكواليس المهنة والعلاقات المرتبكة والصدامية بين العاملين فيها، وبالتمزّقات التي تُصيب روحًا وعقلاً وتفكيرًا. وهذا كلّه مرفقًا بأداء مايكل كيتون أولاً وأساسًا.
لن يكون سهلاً اختزال العوالم السينمائية التي يصنعها أليخاندرو غونزاليس إيناريتو. السابق محاولة لتبيان شيءٍ من انشغالاتها وأدواتها، وكل واحدة منها قابلة لبحثٍ وتنقيب نقديين، متأتيِّين من متعة المُشاهدة، رغم قسوة الحكايات، وحِدّة الصدامات، وألم الخيبات.
لكن إنجازاته تلك لن تجد كلّها صدى إيجابيًا متكاملاً، كشأن كلّ إنجاز سينمائي يصنعه مخرجون لهم، في صناعة الصورة، تأثيرات مؤدّية إلى تطوير السينما وتغيير مساراتها وأحوالها وأساليب اشتغالاتها وتأمّلاتها. مع هذا، يبقى لإيناريتو مكانةً مفتوحة على الحياة والصدام مع تناقضاتها، وعلى الموت ومواجهة غموضه، وعلى أشباح الفرد وكوابيسه أيضًا.
يرى إيناريتو السينما "ثقبًا نُظهر عبره الحياة"، من دون التغاضي عن مسألة جوهرية، بالنسبة إليه: "نحن، في هذا الإطار، نُقدِّم 20 بالمئة فقط من الواقع، والباقي (80 بالمئة) عليكَ أنتَ أن تتخيّله، وهذا جميل، ويستمرّ حصوله منذ أكثر من قرنٍ" (حوار أجراه معه لوران كاربنتييه، منشور في الصحيفة اليومية الفرنسية "لو موند"، في 17 مايو/ أيار 2017).
هكذا يصنع إيناريتو سينماه، وهكذا ينشغل في هموم الفرد، وانقلابات روحه وألم جسده واختناق ذاته. يذهب بعيدًا في تفكيك الكيان الفردي، محاولاً كشف انزلاقاته ومتاهاته، وباحثًا في انفعالاته عمّا تعنيه تلك الانزلاقات والمتاهات. يُلغي المسافة بين عدسة الكاميرا وثقب الحياة، جاعلاً الأولى (العدسة) مرآة واقع، بكلّ ما في الواقع من متخيّل أيضًا؛ وصانعًا من الثاني (الثقب) مدخلاً إلى عوالم تكتنفها ظلالٌ وأوهام ومَواجِع.
والاختبارات التي يشتغلها في أفلامه ركن أساسيّ في تجريبٍ بصري أو تقني أو فني، كي يعثر على أنماط تعبير غير متشابهة. صدمة الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001 دافعٌ له إلى تمرين بصري سمعي يرتكز على اشتغالٍ صاخب على الصوت، ويستند إلى اهتزاز الصُور المنتقلة بسرعة بين سواد الشاشة وبعض ملامح الاعتداء الإرهابي على برجي "المركز العالمي للتجارة" (نيويورك)، كاستفزازٍ سينمائيّ يريده تحريضًا على إعمال العقل والانفعال معًا في مقاربة لحظة ستُبدِّل مسار التاريخ والعلاقات بين الدول والحضارات والشعوب والثقافات. شريطٌ قصير ضمن فيلم جماعي بعنوان "11 دقيقة و9 ثوان ولقطة"، يعكس شيئًا من تجريبٍ مكتفٍ بلقطات سريعة لأناس يرمون أنفسهم من أحد البرجين، وبملامح للمبنى تميل إلى اللون الداكن، وبتقطيع يحبس الأنفاس، وبأصوات تمزج أنين موت بصراخ ضحية وصخب صدمة.
اختبار كهذا جديدٌ في سيرة سينمائية لا تزال وتيرتها هادئة. "21 غرامًا" (2003) خطوة أولى إلى شهرةٍ تزداد حضورًا في المشهد السينمائي الدولي مع "بابل" (2006)، ثم "بيوتفيل" (2010) و"المنبعث" (2015). هذه نماذج مستلّة من لائحة متواضعة في الروائي الطويل والأعمال القصيرة. نماذج ينتقل فيها أليخاندرو غونزاليس إيناريتو بين شكلٍ يوحي بكلاسيكيةِ سردٍ، قبل أن ينكشف على غليان مشهديّ يكسر كلاسيكية الشكل ليروي فصولاً من سيرة فرد وتقلّباته. القصص العديدة في "بابل"، التي تلتقي قبيل انتهاء مروياتها، تعكس شيئًا من كيفية تحطّم الأحلام وانفلاش الخيبة والصدام مع الهوية والعلاقات والأقدار.
ولوج عالم الموت، مع ليوناردو دي كابريو، أساسيّ في "المنبعث" قبل انبعاث الفرد من موته وامتلاكه حياة جديدة. وهذا لن يحجب جمالية اللغة السينمائية المستخدمة في سرد حكاية تاريخية عادية، إذْ يُغامر إيناريتو في اختبار تصوير بأضواء طبيعية، ويدفع دي كابريو إلى أقصى الممكن في أداء باهر، تمامًا كأداء شون بن وبينيتشيو دل تورو (21 غرامًا)، في اختبار لعبة الأقدار، التي تشهد في "بابل" نموًّا سينمائيًا نواته الأصلية فاعلةٌ، جماليًا وإنسانيًا وفكريًا وتأمّليًا، في "21 غرامًا". أو كأداء خافيير بارديم السائر، هو أيضًا، بين ظلال الموت وأشباح الماضي، في رحلة يومية تأخذه إلى أبعد ما في الموت من تفاصيل ومسارات.
أما "بيردمان" (2014)، فالتماسٌ ملتبس ومعقّد بين الواقع والخيال، وبين المسرح والعيش على الحوافي القاتلة للحياة، وبين خيبات منبثقة من مواجهات غير منتهية بين الفرد وذاته. مسائل كهذه لن تبتعد كثيرًا عن عالم الاستعراض والفنون في برودواي الأميركية، التي تجبلها بكواليس المهنة والعلاقات المرتبكة والصدامية بين العاملين فيها، وبالتمزّقات التي تُصيب روحًا وعقلاً وتفكيرًا. وهذا كلّه مرفقًا بأداء مايكل كيتون أولاً وأساسًا.
لن يكون سهلاً اختزال العوالم السينمائية التي يصنعها أليخاندرو غونزاليس إيناريتو. السابق محاولة لتبيان شيءٍ من انشغالاتها وأدواتها، وكل واحدة منها قابلة لبحثٍ وتنقيب نقديين، متأتيِّين من متعة المُشاهدة، رغم قسوة الحكايات، وحِدّة الصدامات، وألم الخيبات.