لم يعر اهتماماً للألم الظاهر للجميع، كان المخرج السويدي إنغمار بيرغمان (1918- 30 تموز/يوليو 2007) يتقصّى الآلام والخسارات المتوارية في دواخلنا، ويسير وحده غير مزاحمٍ أحداً في تركيب صوره وأبطاله، وكأن حياته شريط سينمائي متواصل يقتطع قطعاً أو أجزاء منها ليصنع منها أفلامه ومسرحياته؛ صمتاً يفضح زيف العالم ووحشتيه.
سعى أن يؤلف عالماً موازياً تتصارع فيه شخصياته، التي جمعته بها صداقة استثنائية، وارتبطت في الوقت نفسه بعلاقات خاصة فيما بينها عبر ترابط أدوارها في أكثر من فيلم، بوجوهها، وحواراتها المقتصبة، وصمتها الأطول، تتماهى مع طبيعة لا تشبه شيئاً إلاّ عزلة بيرغمان النهائية، التي احتضنت موته في جزيرة فارو القصية.
"عزلة" عاشها طوال سنوات عمره التسع والسبعين، رغم تواجده الدائم مع شركائه في العمل، المصورين منهم على وجه الخصوص، وزوجاته الخمس الذي اشتغل بعضهن معه، إلاّ أنه كان ينسى فجأة كيفيّة التعامل مع الكاميرا ويصاب بالرهاب، فيستيقظ –حينذاك- ليقنع نفسه بأن لديه خبرة كبيرة، وأنّه مخرج معروف، ويعرف بالتأكيد كيفيّة التعامل مع آلة التصوير، وقد ظلّ ذلك القلق يرافقه حتّى بعد تحقيقه خمس عشرة أو عشرين تحفة سينمائيّة، كما يروي المخرج وودي ألن.
خاض صاحب فيلم "العار"، الذي تمر ذكرى وفاته اليوم، مواجهات متعددة على طريقته الخاصة، منذ نشأته في عائلة متزمتة دينياً، ومروراً بانكسارات أبناء جيله على إثر الحرب العالمية الثانية، ونفوره الدائم من المدينة، لتشكل جميعها أسئلته الحرجة الدائمة التي تكثف وجودنا الدائم على الحافة.
أمام الكاميرا أراد أن يصفي كل حساباته، وعلى النقاد الذين يصفونه بالفشل، أو الجمهور العازف عن مشاهدته، أن يغيّر رأيه ويتبع مبدعاً يأبى أن تأسره فكرة الاحتراف، مأخوذاً بالتجريب في لغته السينمائية، فينقسم حوله الخصوم والأصدقاء، فينال أعلى درجات التقدير وأقسى الهجاء على الفيلم ذاته.
تقابلات الفناء والخلود، الموت والحياة دفعت بيرغمان إلى مغادرة إيمانه الكنسي والذهاب نحو الفن بلا رجعة، فيعود الفارس أنطونيوس بلوك، بطل فيلمه "الختم السابع"، من الحروب الصليبية، بعد عشرة سنوات من الغياب بالرضا عن أدائه الواجب، مع مرافقه جونز الذي لم ير الحرب سوى عبثاً، فتفاجآ بغزو الطاعون لوطنه السويد. وهناك يقابل الموت على هيئة رجلٍ متجهمٍ يتشح بالسواد قادماً ليقبض روحه، فيعرض عليه الفارس أن يلعب معه الشطرنج، فإن فاز نجا من موته المحقق.
يغش أنطونيوس ويربح جولة أولى، ثم يواصل عيشه محملاً بشكوكه حول معرفة الإله ومعاني الوجود والعدم، فلا يعثر على جواب يجده مقنعاً له، وهي خلاصة تلتقي مع أفلام بيرغمان الأخرى مثل: "العنكبوت" و"وقت الذئاب" و"والسيدة العمياء" وغيرها.
رحلة الشك الطويلة لم تزده سوى إبهاراً، وهي تحيلني دوماً إلى جغرافيتنا العربية وأزماتها، التي لا تحتمل معايشتها إلاّ وفق فيلمه الأثير "قناع/ شخصية Persona"، وربما تضمّن عنوان الفيلم قدراً كبيراً من رؤيته، حيث يشير إلى الدور الذي يتقمصه الممثل أو إلى الشخصية التي نلعبها في حياتنا فيتحدد قبولنا الاجتماعي بناء على أدائنا لها، بكل ما يخفيه القناع من منطقة اللاوعي.
في ستينيات القرن الماضي، أقعد التهاب الرئة بيرغمان عاماً ونصف العام، وأحس حينها بقرب أجله بسبب المرض، وجلس يكتب خربشاته/ عذاباته حول مسيرة ظّن أنها وصلت النهاية، ولم يحضر في باله غير ممثلة مسرحية تؤدي شخصية "ألكترا" فتغشاها نوبة ضحك على خشبة المسرح فتنقل إلى المستشفى وتدخل بعدها في صمت، احتجاجاً على فظاعة الحياة وفجاجتها.
يقيم بيرغمان لعبة ذكية، بإرسال الصامتة إليزابيث إلى بيت مطل على البحر ترافقها ممرضة تدعى ألما، في محاولة لاستنطاق مريضتها، وهنا تنطلق في اعترافات وبوح بكل أسرارها وآلامها وأحلامها وخيبات أملها، وترتبطان بحالات حسية وتفاعلية متعددة وغريبة؛ غضب وحزنٍ وانجذاب واشتباك وتماهٍ، لتغادرها الممرضة بعد أن قررت إليزابيث المكوث في صمتها المثالي إلى الأبد.
تعصف بي صور الصمت في "بيرسونا"، وأنا أقلّب السنوات الأخيرة في واقعنا العربي؛ وأحبس على وقع الدم والاقتتال احتجاحات مؤجلة!