عُرِضَ عليّ، على هامش دعوةٍ أدبية في بلدٍ عربي، أن ألتقيَ مع طالبات مدرسة ثانوية في حوارٍ مفتوحٍ لساعتين.
هلّلتُ من الفرح، وبدا لي، في قرارة نفسي، هذا اللقاءُ أهمَّ من الدعوة الأدبية نفسها! إذ إني سأصغي مباشرةً إلى آراء ومقترحات شريحة ممن لا معنى لحياتي بدون التفاعل معهم والكتابة لهم.
تساءلتُ: ماذا "سأُمَرِّر" من أفكار في الحوار؟
آه، بضاعتي المفضَّلة لم تتغير: بيع التساؤلات والدهشة والنقد والرفض، والترويج لحبّ القراءة وممارسة الإبداع. يكفيني أن أحفزهن على ذلك.
تقلّني السيارة صباحا من الفندق، ترافقني فيها شابّة جامعية. لاحظتُ: كم أحب هذه المدينة العربية الأصيلة، منذ أن كنتُ أهوى جمع الطوابع في طفولتي. كان لديّ طابع بريدٍ شاسع أفخر به، أجملُ طوابعي، عليه صورة هذه المدينة!
أصلُ بابَ المدرسة. تقودني مرافقتي إلى غرفةِ المديرة التي استقبلتني بحفاوة. حوارٌ خفيفٌ على طاولةٍ زاخرة.
درَستْ حضرتُها البيولوجيا في بريطانيا. قادنا ذلك للحديث مباشرة عن رحلة سفينةٍ دامت خمس سنوات حول العالَم: "بِيْجِلْ"، أقلّت شاباً يدرس الكائنات الحيّة، غيّرَ كتابُه التي لحقها بعد عدّة سنين، "أصل الأنواع"، تاريخَ العِلم الحديث.
تعرفُ السيّدة الجليلة تفاصيل يوميات هذه الرحلة، وتشرحها لي بشغفٍ بديع، منذ فاتحة اكتشافات الباحث الشاب في جزر أرخبيل غالاباغوس المقابل للإكوادور، حتّى اكتشافاته في مدينةٍ في شمال أستراليا، سُمِّيَت بعد ذلك باسمه: داروين.
حان موعد اللقاء بالطالبات. أترك المديرة. حسرتي الوحيدة أنها كانت بنقاب لن يسمح لي بأن أتعرّف إليها إذا رأيتها في شارعٍ ما، ذات يوم، لأقول لها ببساطة: صباح الخير!
أصل قاعة المحاضرة. تتقاطر الطالبات. تبدأ مدرِّسةٌ تقديمي بقراءةِ سيرةٍ عني وجدَتها في ويكيبيديا. أزعجني ذلك مرّتين، إحداهما بسبب هذا المدخل الرسمي. ولأنها قرأته بصوتٍ مصطنعٍ زائف، على طريقة مذيعات إذاعة "صوت العرب" المتكلفات جدّاً.
قلتُ بعد الشكر:
= ليكن حوارُنا نقاشاً مفتوحاً وأخذاً ورداً. أتركُ لكُنَّ توجيه تساؤلات حول المجالات التي سمعتموها أثناء التقديم، ولي تجارب متواضعة فيها كالتدريس والبحث الجامعي، الرواية، الرياضيات وعلوم الكمبيوتر...
صمتٌ كليّ. أعدتُ طلبي بلهجة تشجيعية أفضل. لا جديد.
لجأتُ لِمدح ضرورة أن تكون أدمغتنا ماكنات تساؤلات، لأن المعرفة تبدأ من التساؤل.
لا جديد. الصمتُ المطبق نفسُه.
لعلي اضطربتُ قليلاً، وانتقلتُ إلى التهديد الودّي. قلتُ: إذا لم توجّهن الأسئلة، فلديّ لكل واحدةٍ منكن 100 سؤال! لا أبحث في الحقيقة عن سؤال مدهشٍ نادر لم يخطر ببال، وإنما عن تساؤلٍ راودَ إحداكنّ يوماً، لِنستهلّ الحوار به.
تجرأتْ إحداهنّ بهذا الاعتراف الخافت:
= لسنا متعودات على الأسئلة. الأستاذة تقول لنا: "لا ترفعنَ يداً لتوجيه سؤال. أنا هنا من أوجّهُ الأسئلة!".
اعترتني صدمة. انساب مني، بلا شعور، خطابٌ حارٌّ لِنسف ما تعوّدن عليه من كتمِ التساؤل، وقتلِ روحه. ثمّ:
= أثمّة سؤالٌ الآن؟...
ردّت إحداهنّ:
= نتعلّم الرياضيات في المدرسة، لكننا لا ندري ما فائدتها؟...
مدحتُ السؤال من باب التشجيع، ولم أقل لهنّ إنه يشبه سؤال: ما فائدة الأوكسجين؟... ثمّ أحببتُ أن لا أردّ بطريقة تقليدية، منطلقاً من عبارة غاليليو: "الكون كتابٌ لغته الرياضيات"، كاشفاً ومبرهناً لهنّ أن"ملِكة العلوم" تقطن في كل حركة وسكنة: من هيئة شبكة خلية العسل، حتّى بناء السفينة الفضائية وورقة طريقها، مروراً بتشفير الرسائل الإلكترونية...
فضّلتُ، بدل ذلك، أن أعطي مثالاً مدهشاً مرتبطاً بحياة اليوم. شرحت لهنّ حالة موتورات الأبحاث على الإنترنت قبل غوغل، وكيف استطاع شابّان، في العشرين من العمر، اكتشاف معادلة رياضية صغيرة تسمح بإعطاء ردودٍ أفضل من ردود تلك الموتورات. وكيف بنيا بفضلها إمبراطورية شركة غوغل ذات الثروة التي تفوق ثروات دول كبيرة، مفصِّلاً في شرحي أهميّة معادلتهما في إدارةِ معارفِ البشرية، الأهمِّ من كل ثروة.
لم ألاحظ أية دهشة! صدمةٌ جديدة هزّتني، أنقذتني منها المرافقة الشابّة التي سرّبت لي ورقةً صغيرة عليها: "لم يسمعن عن غوغل، بالتأكيد!".
= هل تعرفن موقع غوغل على الإنترنت، وتستخدمن تطبيقاته في هواتفكنّ؟
= "لا، يا أستاذ"؛ قلن جميعاً بصوتٍ ممطمطٍ إنشاديٍّ مشترك، كقطيعٍ مدرّب على الردّ الجماعي، أثار كلّ استغرابي!
= لماذا لم تقاطعني إحداكنّ وتقل لي وأنا في مطلع السرد: "شو هذا غوغل؟"...
ثمّ حاولتُ شرح طريقة عمل غوغل لهنّ، ماضيه وحاضره ومستقبله، وعلاقةَ استخدامه بموضوع التساؤل الذي سردتهُ سابقاً، وضرورة البحث الدائم فيه.
= سؤال آخر؟؛ قلتُ.
= "لا، يا أستاذ!"؛ قلن من جديد بصوت قطيعٍ واحد، وبنبرةٍ إنشاديّةٍ غريبة!
= خلاص، لديّ سؤال لكل واحدة منكن: ما هو أحب كتابٍ قرأته، ولماذا؟
صمتٌ مطبق.
= لا نقرأ الكتب إلا في حصّة اللغة العربية!؛ ردّت إحداهن.
دخلتُ في وعظٍ آخر، كاد لا ينتهي، عن أهميّة القراءة. عبثيٌّ ربما، لأني لم ألاحظ عليهنّ دهشةً أو تأثّرا. ثمّ قرّرتُ أن أوجِّهَ سؤالاً أسهل:
= ما هو أحبّ بيتِ شعرٍ لكل واحدةٍ منكن، ولماذا؟
صمتٌ مطبق، ثم ردّتْ إحداهنّ:
= لا نحبّ الشعر ولا نحفظه!
قاطعَتها أخرى:
= بيتي المفضل: "من علّمني حرفاً، كنتُ له عبداً"!
انفجر ضحك جماعي مفاجئ، شبه هيستيري، لم أستوعب سببه.
= لماذا الضحك؟ سنتناقش حول هذا البيت الآن؛ قلتُ.
لم يتوقّف الضحك العميق، ولم أدرك سرّه إلا عندما أشارت مرافقتي بسبابتها إلى جدار صالة المحاضرة خلفي، حيث تلتصق قطعة قماش كبيرة، عليها بخطّ النسخ الرائع: "من علّمني حرفاً، كنتُ له عبداً"!
ضحكن إذن لأن رفيقتهن "غشّتْ" وهي تقرأ "بيتاً" على الجدار! لا يهم. دخلتُ في قراءةٍ ناقدةٍ رافضة لهذه المقولة العبودية بامتياز. قلتُ لهنّ: ياللبشاعة! كم تثير تقزّزي هذه المقولة! إذ من أجل عبودية القافية، تُحوِّلُ هذا البيتُ الطالبَ إلى عبدٍ سعيدٍ بعبوديته لمدرِّسه، وتُلغي إنسانيته تماماً!
برّرتُ لهنّ ومدحتُ المقولة المضادة: "من علّمني حرفاً، كنتُ له ندّاً"...
= بيت شِعرٍ آخر؟؛ سألتُ.
لا رد.
= أسمح لكنّ باستخدام الهاتف الذي لا يفارق أيديكن وأنا أتحدّث، للبحث عن بيت شِعرٍ فيه، والتعليق عليه سلباً أو إيجاباً. أريد أن أسمع تعليقات شخصيّةً حرّة، آراء. لن أغادر المحاضرة بدونها!...
لا رد!
= أليس هناك بيت شِعر واحد في كلّ الإنترنت؟؛ سألتُ.
= لا نستخدم الهاتف للشِّعر كما قلنا لك يا أستاذ؛ ردّ صوتٌ من وسط القاعة.
= ماذا تقرأون إذن عليه؟
= WhatsApp!
= آه، وما هي تطبيقاتكن المفضّلة!
= نحب نأخذ سيلفي بواسطته.
= كم سيلفي باليوم؟
جدلٌ واختلاف في العدد، استنتجتُ منه أن المعدل اليومي حوالي 200 سيلفي؛ 300 حسب مرافقتي!
اقترب موعد انتهاء المحاضرة. توجّهتُ مع مرافقتي إلى صالة المديرة التي ضمرت حفاوتها، كما يبدو. لم أتجرأ على مطالبتها بمواصلة سردِها الممتع لِيوميات سفينة بِيْجِل...
لم يكن في رأسي غير حلمٍ واحد: سفينة نوح أحمل فيها كل طالبات ومدرِّسات هذه المدرسة (التي تشبه كلّ المدارس العربية تقريباً، من المحيط إلى الخليج) بعيداً عن طوفان ثقافةٍ تقتلُ التساؤل والنقد، وتقطعُ في الجبين عِرق الدهشة!
هلّلتُ من الفرح، وبدا لي، في قرارة نفسي، هذا اللقاءُ أهمَّ من الدعوة الأدبية نفسها! إذ إني سأصغي مباشرةً إلى آراء ومقترحات شريحة ممن لا معنى لحياتي بدون التفاعل معهم والكتابة لهم.
تساءلتُ: ماذا "سأُمَرِّر" من أفكار في الحوار؟
آه، بضاعتي المفضَّلة لم تتغير: بيع التساؤلات والدهشة والنقد والرفض، والترويج لحبّ القراءة وممارسة الإبداع. يكفيني أن أحفزهن على ذلك.
تقلّني السيارة صباحا من الفندق، ترافقني فيها شابّة جامعية. لاحظتُ: كم أحب هذه المدينة العربية الأصيلة، منذ أن كنتُ أهوى جمع الطوابع في طفولتي. كان لديّ طابع بريدٍ شاسع أفخر به، أجملُ طوابعي، عليه صورة هذه المدينة!
أصلُ بابَ المدرسة. تقودني مرافقتي إلى غرفةِ المديرة التي استقبلتني بحفاوة. حوارٌ خفيفٌ على طاولةٍ زاخرة.
درَستْ حضرتُها البيولوجيا في بريطانيا. قادنا ذلك للحديث مباشرة عن رحلة سفينةٍ دامت خمس سنوات حول العالَم: "بِيْجِلْ"، أقلّت شاباً يدرس الكائنات الحيّة، غيّرَ كتابُه التي لحقها بعد عدّة سنين، "أصل الأنواع"، تاريخَ العِلم الحديث.
تعرفُ السيّدة الجليلة تفاصيل يوميات هذه الرحلة، وتشرحها لي بشغفٍ بديع، منذ فاتحة اكتشافات الباحث الشاب في جزر أرخبيل غالاباغوس المقابل للإكوادور، حتّى اكتشافاته في مدينةٍ في شمال أستراليا، سُمِّيَت بعد ذلك باسمه: داروين.
حان موعد اللقاء بالطالبات. أترك المديرة. حسرتي الوحيدة أنها كانت بنقاب لن يسمح لي بأن أتعرّف إليها إذا رأيتها في شارعٍ ما، ذات يوم، لأقول لها ببساطة: صباح الخير!
أصل قاعة المحاضرة. تتقاطر الطالبات. تبدأ مدرِّسةٌ تقديمي بقراءةِ سيرةٍ عني وجدَتها في ويكيبيديا. أزعجني ذلك مرّتين، إحداهما بسبب هذا المدخل الرسمي. ولأنها قرأته بصوتٍ مصطنعٍ زائف، على طريقة مذيعات إذاعة "صوت العرب" المتكلفات جدّاً.
قلتُ بعد الشكر:
= ليكن حوارُنا نقاشاً مفتوحاً وأخذاً ورداً. أتركُ لكُنَّ توجيه تساؤلات حول المجالات التي سمعتموها أثناء التقديم، ولي تجارب متواضعة فيها كالتدريس والبحث الجامعي، الرواية، الرياضيات وعلوم الكمبيوتر...
صمتٌ كليّ. أعدتُ طلبي بلهجة تشجيعية أفضل. لا جديد.
لجأتُ لِمدح ضرورة أن تكون أدمغتنا ماكنات تساؤلات، لأن المعرفة تبدأ من التساؤل.
لا جديد. الصمتُ المطبق نفسُه.
لعلي اضطربتُ قليلاً، وانتقلتُ إلى التهديد الودّي. قلتُ: إذا لم توجّهن الأسئلة، فلديّ لكل واحدةٍ منكن 100 سؤال! لا أبحث في الحقيقة عن سؤال مدهشٍ نادر لم يخطر ببال، وإنما عن تساؤلٍ راودَ إحداكنّ يوماً، لِنستهلّ الحوار به.
تجرأتْ إحداهنّ بهذا الاعتراف الخافت:
= لسنا متعودات على الأسئلة. الأستاذة تقول لنا: "لا ترفعنَ يداً لتوجيه سؤال. أنا هنا من أوجّهُ الأسئلة!".
اعترتني صدمة. انساب مني، بلا شعور، خطابٌ حارٌّ لِنسف ما تعوّدن عليه من كتمِ التساؤل، وقتلِ روحه. ثمّ:
= أثمّة سؤالٌ الآن؟...
ردّت إحداهنّ:
= نتعلّم الرياضيات في المدرسة، لكننا لا ندري ما فائدتها؟...
مدحتُ السؤال من باب التشجيع، ولم أقل لهنّ إنه يشبه سؤال: ما فائدة الأوكسجين؟... ثمّ أحببتُ أن لا أردّ بطريقة تقليدية، منطلقاً من عبارة غاليليو: "الكون كتابٌ لغته الرياضيات"، كاشفاً ومبرهناً لهنّ أن"ملِكة العلوم" تقطن في كل حركة وسكنة: من هيئة شبكة خلية العسل، حتّى بناء السفينة الفضائية وورقة طريقها، مروراً بتشفير الرسائل الإلكترونية...
فضّلتُ، بدل ذلك، أن أعطي مثالاً مدهشاً مرتبطاً بحياة اليوم. شرحت لهنّ حالة موتورات الأبحاث على الإنترنت قبل غوغل، وكيف استطاع شابّان، في العشرين من العمر، اكتشاف معادلة رياضية صغيرة تسمح بإعطاء ردودٍ أفضل من ردود تلك الموتورات. وكيف بنيا بفضلها إمبراطورية شركة غوغل ذات الثروة التي تفوق ثروات دول كبيرة، مفصِّلاً في شرحي أهميّة معادلتهما في إدارةِ معارفِ البشرية، الأهمِّ من كل ثروة.
لم ألاحظ أية دهشة! صدمةٌ جديدة هزّتني، أنقذتني منها المرافقة الشابّة التي سرّبت لي ورقةً صغيرة عليها: "لم يسمعن عن غوغل، بالتأكيد!".
= هل تعرفن موقع غوغل على الإنترنت، وتستخدمن تطبيقاته في هواتفكنّ؟
= "لا، يا أستاذ"؛ قلن جميعاً بصوتٍ ممطمطٍ إنشاديٍّ مشترك، كقطيعٍ مدرّب على الردّ الجماعي، أثار كلّ استغرابي!
= لماذا لم تقاطعني إحداكنّ وتقل لي وأنا في مطلع السرد: "شو هذا غوغل؟"...
ثمّ حاولتُ شرح طريقة عمل غوغل لهنّ، ماضيه وحاضره ومستقبله، وعلاقةَ استخدامه بموضوع التساؤل الذي سردتهُ سابقاً، وضرورة البحث الدائم فيه.
= سؤال آخر؟؛ قلتُ.
= "لا، يا أستاذ!"؛ قلن من جديد بصوت قطيعٍ واحد، وبنبرةٍ إنشاديّةٍ غريبة!
= خلاص، لديّ سؤال لكل واحدة منكن: ما هو أحب كتابٍ قرأته، ولماذا؟
صمتٌ مطبق.
= لا نقرأ الكتب إلا في حصّة اللغة العربية!؛ ردّت إحداهن.
دخلتُ في وعظٍ آخر، كاد لا ينتهي، عن أهميّة القراءة. عبثيٌّ ربما، لأني لم ألاحظ عليهنّ دهشةً أو تأثّرا. ثمّ قرّرتُ أن أوجِّهَ سؤالاً أسهل:
= ما هو أحبّ بيتِ شعرٍ لكل واحدةٍ منكن، ولماذا؟
صمتٌ مطبق، ثم ردّتْ إحداهنّ:
= لا نحبّ الشعر ولا نحفظه!
قاطعَتها أخرى:
= بيتي المفضل: "من علّمني حرفاً، كنتُ له عبداً"!
انفجر ضحك جماعي مفاجئ، شبه هيستيري، لم أستوعب سببه.
= لماذا الضحك؟ سنتناقش حول هذا البيت الآن؛ قلتُ.
لم يتوقّف الضحك العميق، ولم أدرك سرّه إلا عندما أشارت مرافقتي بسبابتها إلى جدار صالة المحاضرة خلفي، حيث تلتصق قطعة قماش كبيرة، عليها بخطّ النسخ الرائع: "من علّمني حرفاً، كنتُ له عبداً"!
ضحكن إذن لأن رفيقتهن "غشّتْ" وهي تقرأ "بيتاً" على الجدار! لا يهم. دخلتُ في قراءةٍ ناقدةٍ رافضة لهذه المقولة العبودية بامتياز. قلتُ لهنّ: ياللبشاعة! كم تثير تقزّزي هذه المقولة! إذ من أجل عبودية القافية، تُحوِّلُ هذا البيتُ الطالبَ إلى عبدٍ سعيدٍ بعبوديته لمدرِّسه، وتُلغي إنسانيته تماماً!
برّرتُ لهنّ ومدحتُ المقولة المضادة: "من علّمني حرفاً، كنتُ له ندّاً"...
= بيت شِعرٍ آخر؟؛ سألتُ.
لا رد.
= أسمح لكنّ باستخدام الهاتف الذي لا يفارق أيديكن وأنا أتحدّث، للبحث عن بيت شِعرٍ فيه، والتعليق عليه سلباً أو إيجاباً. أريد أن أسمع تعليقات شخصيّةً حرّة، آراء. لن أغادر المحاضرة بدونها!...
لا رد!
= أليس هناك بيت شِعر واحد في كلّ الإنترنت؟؛ سألتُ.
= لا نستخدم الهاتف للشِّعر كما قلنا لك يا أستاذ؛ ردّ صوتٌ من وسط القاعة.
= ماذا تقرأون إذن عليه؟
= WhatsApp!
= آه، وما هي تطبيقاتكن المفضّلة!
= نحب نأخذ سيلفي بواسطته.
= كم سيلفي باليوم؟
جدلٌ واختلاف في العدد، استنتجتُ منه أن المعدل اليومي حوالي 200 سيلفي؛ 300 حسب مرافقتي!
اقترب موعد انتهاء المحاضرة. توجّهتُ مع مرافقتي إلى صالة المديرة التي ضمرت حفاوتها، كما يبدو. لم أتجرأ على مطالبتها بمواصلة سردِها الممتع لِيوميات سفينة بِيْجِل...
لم يكن في رأسي غير حلمٍ واحد: سفينة نوح أحمل فيها كل طالبات ومدرِّسات هذه المدرسة (التي تشبه كلّ المدارس العربية تقريباً، من المحيط إلى الخليج) بعيداً عن طوفان ثقافةٍ تقتلُ التساؤل والنقد، وتقطعُ في الجبين عِرق الدهشة!