عندما يكذب الأغنياء!
استوقفني حديث صديقي أبو عماد القادم تواً من الولايات المتحدة الأميركية، بعدما قضى ما يزيد عن أكثر من عشرين عاماً في إحدى ولاياتها الجنوبية التي تترع بخيراتها حتى الثُّمالة، وهو الذي لم يتركُ مجالاً في الاستئناس بطيف أحلامها، والتمتع بهدوئها ولياليها الساحرة الماجنة!
صديقي العزيز، الذي شارف على الستين ربيعاً، أو يزيد، ذكر في ما ذكر من أشياء كثيرة لطالما استوقفَته هناك، ومن بين ما قاله عن صديقه أبو محمود، المقيم في ولاية لويزيانا الأميركية لأكثر من خمسين عاماً الكثير، وهو الذي كان مجداً في عمله، ويوصل الليل بالنهار، وكل هدفه ملء جيوبه الفارغة من فئة المائة دولار، والسعي للحصول على جنسيتها مهما كلفه ذلك من وقت وجهد ومال، ولا سيما أنه القادم من بلاد الشرق المتخم بالكثير من العلل والفقر المدقع، والحاجة الملحّة إلى العمل والكسب والخير الوفير.
يقول صديقي أبو عماد في ما يقول عن أبو محمود، وهو الإنسان الذي سبق له أن استعاد نشاطه وهمته، وهو الميال كثيراً إلى الجد، ولا غير سواه.
أبو محمود، وكما يصفه أبو عماد، الذي عمل معه فترة زمنية لا بأس بها استمرت لأكثر من عشرة أعوام في محاله التجارية الموزعة هنا وهناك، كان إلى حدٍ ما يجيد التحدّث باللغة الانكليزية على الرغم من الفترة الطويلة التي قضاها في أرض الولايات المتحدة الأميركية، ورغم همّته الكبيرة، وأعماله الكثيرة ومشاغله التي لا تنتهي، وعلاقاته اللصيقة مع مسؤوليها، ولا سيما أنه اتخذ من ولاية لويزيانا إقامة دائمة له، وشراء العديد من المحال التجارية، وأسّس غيرها من محال مُنتجة، فضلاً عن همته البدنية، وبديهته الحاضرة، وكان شديد الحرص على رزقه الذي يوليه اهتماماً خاصاً ما يعني انقطاعه عن العالم الآخر، وتمكنه ــ بالتالي ــ من شرائه الكثير من العقارات والبيوت السكنية.
ما يمكن أن نقف عنده هو الحال الذي كان يُعامل فيه أبو محمود، الرجل السبعيني، كما يؤكد أبو عماد، العاملين لديه بنظرات ازدراء غريبة. هؤلاء العاملون الذين هجروا الشرق البغيض، بكل علله، ودفعوا الغالي والنفيس من أجل الوصول إلى أرض العم سام بحثاً عن الرزق لأجل خاطر إعانة أسرهم وأهليهم، وانتشالهم من حالة العوز والفقر والحاجة التي يعانون.
وكان معظم العاملين الذي يعملون في المحال التي يملكها أبو محمود، الذي عاش الأمرّين، من المحتاجين مادياً، وهذا طبيعي جداً، وإلا كيف دفعت بهم ظروفهم الحياتية الصعبة، والحالة الذليلة إلى التعرف عليه واللقاء به، والخضوع لأوامره وعنجهيته وطلباته التي لا تنتهي، علاوةً على أنه كان يحط من قدرهم ويقوم بإذلالهم والانتقاص منهم.
وكان أبو محمود، وعلى الرغم من قدراته المالية الضخمة، والمحال التجارية التي تعود ملكيتها له، يسعى دائماً، وحسب ما نمي إلينا، إلى فعل الخير، سواء لأبناء بلده أو بقية الناس المحتاجين الذين يطلبون مساعدته من داخل أميركا ومن خارجها. الإمكانات المادية التي يملكها أبو محمود، لم تؤثر في الانكفاء في العمل، والابتعاد عنه، بل تجده يقبل على العمل بهمّة ونشاط غير عاديين.
وفي إحدى المرات، وكما يؤكد صديقنا أبو عماد، أن أبو محمود، الرجل السبعيني، وعلى الرغم من الخير الوفير الذي يدر عليه دخلاً مضاعفاً، ورزقاً كثيراً، إلا أنه ظل يُعامل الناس معاملة سيئة جداً، ويستخفّ في عقولهم وقدراتهم، ويزدريهم في أماكن عملهم، أو حتى في حال طلب منه أحد العاملين الذين يعملون معه في محاله التجارية زيادة في أجرته، أو في الوقوف معه لحل مشكلة ما يعاني منها.. وإن كان تواجده في محاله لفترة قصيرة من الزمن في أثناء زياراته لها، وحضوره اللافت إليها، وحده، كان يشكل هاجس خوف ورعب لدى العاملين فيها، وإن كان أغلبهم من المقربين إليه!
وكان يُشكك في ولائهم له، ويحثّهم على طاعته، ويشرح لهم ما مدى معرفته بهذا البلد، وقدرته على إيذائهم، في الوقت الذي كان فيه يدفع أجرة العاملين مع نهاية أيام الأسبوع.. وهو أشدّ حرصاً على تأمين مطالبهم، وإن اضطر الحال إلى تأمين السكن المناسب لهم لقاء أجر مناسب تماشياً مع خدمة العمل الذي يقومون به، وهذا بالتأكيد من أجل مصلحته، وهي الاستمرارية في العمل معه، وإدارته لمحاله التجارية، وإن تصرف غير ذلك فانه سيفقدهم، ما يعني توقف العمل في محاله، وهذا ما سوف ينعكس سلباً على رزقه الذي يسعى إلى توسعته، وحمايته من الانحسار والتراجع.
ويؤكد أبو عماد، صديقي القادم من بلاد العم سام، على أن أبو محمود، ورغم غناه الفاحش، وتعافيه مادياً إلّا أنه لم يكن كريماً وسخياً في عطائه إلى الحد الذي كنا نظن، فإنه كان يخدع نفسه ويخدع الآخرين على احترامه، وهو الإنسان المقتدر مادياً على دفع الكثير من المال لقاء إرضاء نفسه.
وفي إحدى المرات طالبه أحد العاملين معه، كما يروي أبو عماد، بمبلغ من المال، ولا سيما أنه سبق أن وعده به في حال أكمل معه عاماً كاملاً فسوف يعطيه ألف دولار زيادة على الأجر الأسبوعي الذي يقبضه، وهذا الكلام حاول أحد العاملين الذين كانوا يعملون عند أبو محمود المطالبة بهذا المبلغ المتواضع قياساً بما يملك، بعد أن قضى نحو عام من العمل في أحد محاله التجارية. بادر العامل الذي ترك العمل عنده بالتواصل معه، بعد حوالي أربع سنوات من تركه له، مذكّراً إيّاه بما سبق أن قطع على نفسه من وعد.. إلا أن أبو محمود لم يرد طلب ذلك العامل، ورد عليه برسالة مفادها أنه سيدفع له ما تفضّل به، ويؤكد أبو أحمد في رسالته، أنه لم يسبق أن وعده بدفع مثل المبلغ لأي كان، وأن العامل لم يكمل الفترة الزمنية التي ذكرها له، ولكنه أكد على أنه سيقوم بدفع المبلغ احتراماً للعلاقة والود اللذين ربطاهما مع بعض.. وبالفعل، لم يتوانَ أبو محمود بعد أيام عن إرسال حوالة مالية، وإرسال صورة عن المبلغ وقدره خمسمائة دولار أميركي، وعلى أن يعلمه بمجرد استلامه.
فرح العامل بصورة الحوالة المرسلة، وفي اليوم التالي، قام العامل بمراجعة مكتب الحوالات الرئيسي في المدينة التي يقيم فيها، وبعد أن أدخل الموظف رقم الحوالة إلى جهاز الكومبيوتر فوجئ بأن الرقم غير صحيح، وأنه تمت إعادة المبلغ إلى الجهة التي أرسل منها. صدم العامل من هذا الموقف المحرج فاتصل مرةً ثانية بالرجل السبعيني وأخبره بما حصل، وأجابه بأنه أرسل المبلغ من قبله.. وبعد يومين اثنين عاد فأكد أنه سحب المبلغ المرسل وأعاد إرساله برقم جديد للمرة الثانية، ما دفع العامل، كما يقول أبو عماد، إلى مراجعة مكتب الحوالات الدولي، وأكد له للمرة الثانية على أن المبلغ لم يصل بعد، وهكذا، ما دفع العامل المسكين إلى إرسال رسالة يخاطب فيها أبو محمود في الولايات الأميركية أن ما أرسله من مبلغ مالي لم يصل، وإنما كانت تلك مجرد خدعة وكذبة كبيرة يحاول أن يضحك بها عليه..!
لم يتحمّل أبو محمود رد العامل الذي كان في يوم ما يعمل لديه، ما دفع بصاحب الأطيان إلى الاستهزاء بالعامل البسيط، ومحاولة سد كل الطرق أمامه مؤكداً إيهامه بإرسال المبلغ المكافأة، وقذفه بعبارات مخجلة، ما يعني توقفه عن المطالبة بالمبلغ، وهذا ما كشف كذب المتأمرك العربي وتنصله عن وعده باختلاق مبرّرات ما أنزل الله بها من سلطان، في الوقت الذي لم يقم بإرسال الحوالة المالية الأصلية، وإيهامه بإرسال كل ذلك من أجل خاطر الخمسمائة دولار التي استكثرها هدية لعامل بسيط، وسبق أن طالب بحق من حقوقه المشروعة.
هذه صورة مصغرة من صور الأغنياء العرب المقيمين في أميركا الذين ينادون بالحرية والاجتهاد والكسب الحلال، ويدعون إلى احترام الرأي والرأي الآخر، والمدافعين عن دينهم والداعمين له ولكل محتاج، فكيف الحال بالناس العاديين جداً الذين يواصلون العمل في الليل والنهار لإسعاد أسرهم وإعانة أبنائهم.. إنهم، بالتأكيد، يظلون أكثر عطاءً وصدقاً، وتراهم يدفعون المزيد من المساعدات، ويبرون أصدقاءهم، وبصدق وبكل رغبة، لقاء خدمة الناس الفقراء، رغم الحاجة والعوز والفاقة التي يعيشون فيها.