عندما يفوز آبي أحمد بجائزة نوبل للسلام

15 أكتوبر 2019
+ الخط -
ربما لم يكن اختيار لجنة جائزة نوبل للسلام هذا العام (2019) منحها للزعيم الإثيوبي الشاب، آبي أحمد علي، مفاجئا لأحد من متابعي هذه الجائزة، وخصوصا أن الخريطة السياسية العالمية تكاد تكون مقفرة من أي سلام، وخصوصا منطقتنا العربية والشرق الأوسط عموما، المنطقة المنكفئة على ذاتها، والغارقة بدوامة عنفٍ لم يتوقف. والتقاط لجنة الجائزة له مرشّحا للسلام هو تتويج لجهودٍ بذلها الرجل في فترة قصيرة من صعوده إلى السلطة، إثر ثورة ربيعية احتجاجية إثيوبية صامتة ظلت ثلاث سنوات مضت، وآتت أكلها من دون ضجيج، بصعود هذا القائد الذي استطاع، في فترة قصيرة جداً، أن يُحدث فرقاً كبيراً في مسار السياسة والأحداث في مجتمعه الإثيوبي، ومجتمع القرن الأفريقي عموما، كمنطقة مسكونة بالنزاع والصراع والاقتتال الدائم بين شعوبها وإثنياتها المتصارعة.
صعد آبي أحمد من مجتمعٍ يعيش أزمة وصراع هويات متفاقمة، في ظل حالة صراع دائم ومتفاقم، وانسداد أفق الأزمة الإثيوبية التي صعدت به إلى واجهة الأحداث قبل عام ونصف العام، بعد استقالة سلفه هيلميريم ديسلين، ليرث آبي أحمد ملفات الصراع الإثيوبي المفتوح على كل المستويات، سياسية واقتصادية وحدودية، وإثنية. ومع ذلك وقف في واجهة الأحداث برباطة جأش، محاولا البحث عن مفتاح الحلول السحري، فلم يجد غير خيار السلام طريقا إلى ذلك كله.
بدأ آبي أحمد حلول السلام منطلقا من الأزمة الإثيوبية الداخلية، والتي قفزت به سريعا، إلى 
واجهة المشهد، الإثيوبي والإقليمي والدولي، فآبي الذي كان في الأمس البعيد أحد الثوار الذين ثاروا ضد نظام منغستو هيلا ميريم اليساري، والذي أطيح لصالح الجبهة الديمقراطية الشعبية لشعوب إثيوبيا المتحدة، والتي تولت السلطة وتولى زمامها الزعيم الإثيوبي الراحل، مليس زيناوي، هو أيضاً ينتمي إلى الأكثرية الأرومية التي ظلت مقصية عن الحكم طويلا، وخاضت احتجاجاتٍ كبيرة على مدى السنوات الثلاث الماضية. وصعود آبي يعني أنه كان خيار الضرورة الذي أوقف جاء في لحظة مهمة وحاسمة في حياة الشعوب الإثيوبية.
خلال فترة قصيرة جدا من صعوده، تبنّى آبي سياسة السلام المفتوح، وبدون أي شروط، وبدأ أولى خطواتها برفع حالة الطوارئ وإطلاق المعتقلين السياسيين، والسماح بعودة المنفيين منهم، ممن كانوا في مقدمة قائمة الإرهاب للحكومة السابقة. وكانت هذه الإجراءات بمثابة جسور بناء الثقة مع كل شركاء المشهد السياسي الإثيوبي المتكلس منذ زمن.
سياسة الانفتاح التام مع كل متطلبات المرحلة، من التعدد السياسي والحقوق والحريات وحرية الإعلام، وتبني انفتاح اقتصادي كبير، كل هذه الخطوات أعادت الثقة بالسياسة، والعمل السياسي عموما، في مجتمع ملّ السياسة، وفقد ثقته بها في إنتاج حلول أزماته، ما ساعد على بناء جسور ثقة كبيرة بين آبي أحمد والمجتمع الإثيوبي أولا، والمجتمع الإقليمي والدولي ثانيا.
فضلا عن ذلك كله، تكمن كاريزما الرجل أيضا في جزءٍ من هذا الانطلاق، باعتباره نتاج تنوع إثني وديني، عرف كيف يصنع المشتركات والسلام، وهو المنتمي للأكثرية الأورومية المقصية فترات طويلة عن الحكم، وكذا أمه الأمهرية المسيحية. وهذا في حد ذاته جزء من تكوين الرجل الشخصي، الذي يعمل على بناء جسور التواصل بين مكوّنات المجتمع الإثيوبي، واعتقد أن هذه أيضاً إحدى زوايا النظر، المهمة للجنة الجائزة، واعتبارها شيئا ذا أهمية في رصيد 
الرجل.
ولكن يبقى الأهم في هذا كله إيمان الرجل المطلق بالسلام الإنساني الشامل، المنطلق من إيمانه بالتنوع والتعدّد وتكافؤ الفرص منطلقات حقيقية لأي سلام شامل ومستدام. وهذا ما جعله ربما محل قبول محلي وإقليمي واضح ولافت في ملفات المنطقة الأفريقية كلها، من الأزمة مع إريتريا والأزمة الصومالية الكينية إلى الأزمة السودانية، عدا عن الأزمة اليمنية التي حاول مرات، من دون أن يجد تفاعلا جدّيا من أي طرف يمني.
ربما أيضا، صدقية الرجل وجديته في معالجة قضايا المشهدين السياسيين، الإثيوبي الداخلي، والأفريقي عموما، وتعقيدهما، هما ما منحتاه مكانة خاصة، ساهمت في إفشال المحاولتين السابقتين لاغتياله والانقلاب عليه، والمتمثله في الالتفاف الشعبي الكبير حوله ومشروعه السياسي، المرتكز على السلام والانتقال السياسي الديمقراطي للعملية السياسية في إثيوبيا والمنطقة كلها، وهو ما أهل الرجل فعلا ليقود مسيرة سلام حقيقية بالتصالح مع الذات والآخر. وبعد ذلك، لم يكن تأهل آبي أحمد للجائزة سوى تحصيل حاصل، ينطلق من رغبة لجنتها بعد إخفاق في بعض محطات منحها، كما في حالة الميانمارية، أونغ سان سوتشي، في 1991، والتي تُعد انتكاسة في تاريخ نوبل للسلام.
ختاما، فوز آبي أحمد بجائزة نوبل للسلام، زعيما شابا وصانعا حقيقيا للسلام، وهو في بداية مشواره السياسي والوطني، بقدر ما هو إنجاز شخصي له بقدر ما هو أيضاً إنجاز وطني عام لإثيوبيا والقرن الأفريقي عموما، وهي المنطقة التي تشهد حراكا سياسيا كبيرا للخروج من دوامة الصراع والبحث عن السلام والاستقرار في منطقةٍ ظلت فترات طويلة، ولا تزال عرضة لكل أنواع التدخلات الخارجية المغذية للصراعات الداخلية والحدودية في منطقة حيوية، وذات تاريخ حضاري وموقع وموارد تؤهلها لأن تكون في مصافّ الدولة الصاعدة نحو الاستقرار السياسي والانتقال الديمقراطي الحقيقي المأمول والمرتقب.
نبيل البكيري
نبيل البكيري
كاتب وباحث يمني مهتم بقضايا الفكر والفلسفة والاجتماع والتاريخ والسياسة.