08 نوفمبر 2024
عندما يرى ترامب بريطانيا تابعاً
أقل ما يمكن أن توصف به طريقة استقالة السفير البريطاني لدى واشنطن، كيم داروك، أنها إذلالٌ مهين لبريطانيا من الرئيس دونالد ترامب. عملياً، لم يستقل الرجل، بل أقيل، ومن أقاله لم تكن حكومته، بل ترامب نفسه، وهو ما عرّى ضعف بريطانيا أمام حليفها الأوثق، الولايات المتحدة. اللافت هنا أن ترامب الذي شنَّ حملة شعواء على داروك ورئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، هو نفسه من يتودّد إلى زعماء آخرين، ينبغي أنهم خصوم لبلاده، كما في حالة الرئيسين، الروسي فلاديمير بوتين والصيني وشي جين بينغ. وكلنا يذكر كيف أنه بعد أشهر من تبادل الإهانات والتنابز بالألقاب مع زعيم كوريا الشمالية، كيم جون أون، انتهى الحال بترامب متحدّثا عن "علاقة الحب" بينهما.
خلفية تطور الأحداث أخيرا نشْرُ صحيفة ديلي ميل البريطانية، يوم السبت الماضي، مراسلات ديبلوماسية سرية مسرّبة من السفير داروك إلى حكومته في لندن، تغطي الفترة منذ الأشهر الأولى لتولي ترامب الرئاسة، مطلع عام 2017، حتى المرحلة الحالية. يتحدّث داروك فيها عن صراع داخلي في البيت الأبيض، كما يقدّم وصفا لحالة الارتباك التي سادت الإدارة الأميركية، الشهر الماضي (يونيو/ حزيران)، بسبب إلغاء ترامب ضربة عسكرية ضد إيران، دقائق قبل بدئها. إلا أن أكثر ما أثار ترامب في المراسلات المسربة هو رأي السفير البريطاني فيه شخصيا، إذ يصفه بأنه "عديم الكفاءة وغير مؤهل"، وتوقع نهاية "مخزية" لولايته. وعلى الرغم من أنه توقع إعادة انتخابه رئيسا لدورة ثانية، إلا أنه يضيف أن رئاسة ترامب قد "تتحطّم وتحترق وتنتهي بوَصمة عار". ويلخص داروك تقييمه إدارة ترامب بالقول: "لا نعتقد حقا أن هذه الإدارة ستصبح طبيعية بشكل ملموس، وأقل اختلالا، وأقل تقلبا، وأقل تمزقا بالخلافات، وأقل حماقة وانعداما للكفاءة من الناحية الدبلوماسية".
ما أن وصل الخبر إلى مسامعه، حتى لجأ الرئيس الأميركي إلى وسيلته المفضلة في التعبير
عن مواقفه، "تويتر"، فكان أن شنَّ حملة شعواء على السفير الذي وصفه بأنه "شخص غبي جدا"، و"أحمق ومغرور"، وأعلن أن الولايات المتحدة لن تتعامل معه إن بقي سفيرا. حتى رئيسة الوزراء، ماي، لم يوفرها ترامب، فوصفها بـ"الحمقاء". المفارقة، أن ترامب الذي صب جام غضبه على بريطانيا، بسبب رأي السفير في شخصه وإدارته، لم يتورع في الماضي عن دسِّ أنفه في شؤون بريطانيا الداخلية، فأيد خروجها من الاتحاد الأوروبي (بريكست). وعاد إلى ذلك في خضم هذا الخلاف، منتقدا إدارة ماي عملية الخروج، ومحملا إياها، شخصيا، مسؤولية "الفوضى" القائمة حاليا. بل إن ترامب مضى أبعد من ذلك في إظهار الشماتة بقرب رحيل حكومة ماي، فقال: "الخبر السعيد بالنسبة للمملكة المتحدة الرائعة أنه سيكون لها رئيس جديد للحكومة".
أمام ذلك كله، لم يكن أمام داروك غير الاستقالة، خصوصا بعد أن رفض، بوريس جونسون، المرشح المحافظ الأوفر حظا لخلافة ماي دعمه. ولكن، إذا كانت استقالة داروك، وقرب رحيل حكومة ماي، خطوتين من شأنهما تمهيد الطريق للدولتين الحليفتين، لتجاوز هذه الأزمة الدبلوماسية بينهما، إلا أن هذا لا يعني أن معضلة بريطانيا انتهت، حتى ولو جاء جونسون، الأقرب إلى ترامب تفكيرا ومنهجا، إلى رئاسة الوزراء. يظهر السلوك الذي اتبعه ترامب في التعامل مع تسريب مراسلات السفير في واشنطن بجلاء أنه ينظر إلى بريطانيا تابعا لا حليفا، وخصوصا أنه يعلم درجة حاجة بريطانيا إلى الولايات المتحدة اليوم، ذلك أنها على أبواب الخروج من الاتحاد الأوروبي. وإذا كان جونسون هو رئيس الوزراء القادم فعلا، وإذا صدق في وعده إخراج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي تماما أواخر شهر أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، فإن هذا سيعني أن بريطانيا ستكون في أمس الحاجة إلى اتفاقيات اقتصادية مع واشنطن، لتعويض خسارتها الامتيازات الاقتصادية التي توفرها لها السوق الأوروبية المشتركة.
الأخطر من ذلك بالنسبة لبريطانيا، وغيرها من الحلفاء الأميركيين الغربيين، سواء في الاتحاد الأوروبي أو في حلف شمال الأطلسي (الناتو) أنه منذ وصول ترامب إلى الرئاسة، لم تعد العلاقات البينية قائمة على أرضية استراتيجية راسخة وصلبة، بقدر ما أنها أصبحت هشّة عرضة للتقلبات، فمعيار ترامب لقرب العلاقة أو بعدها مع دول كثيرة مستوى الإطراء الشخصي الذي يسبغه عليه حلفاء بلاده وخصومها. وليس سرا أن ترامب مصاب بعقدة تضخم الأنا ومركزية الذات، وهو أمرٌ أدركه الخصوم الاستراتيجيون للولايات المتحدة، كبوتين، وبالتالي يلعبون على وتره. وعلى الرغم من تنبه المسؤولين الأميركيين إلى نقطة الضعف هذه لدى ترامب، إلا أنهم عاجزون عن كبحها. ولعل في توتير ترامب علاقات بلاده مع دول حليفة، كألمانيا وكندا، والآن بريطانيا، وقبل ذلك الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، ما يكفينا استدلالا هنا.
صحيح أن العلاقات الأميركية - البريطانية هي التي على المحك اليوم، لكن الغد المقبل قد
يضع أي دولة أخرى حليفة للولايات المتحدة مكان بريطانيا، بما في ذلك بعض الدول العربية، فليس ترامب من ذلك الطراز الذي يقدّر معروف الآخرين معه، سواء أميركياً أم خارجياً. وقد رأينا كم من شخصية أميركية وقفت معه مرشحا، كوزير عدله السابق، جيف سشين، ثمَّ تخلى عنهم من دون أن يطرف له جفن. وهو لن يتردّد في فعل الأمر نفسه مع من يظنون أنفسهم حلفاءه. قبل شهر واحد فقط، كان ترامب في ضيافة الملكة البريطانية، إليزابيث الثانية، تعبيرا عن علاقة تحالفية تاريخية بين دولتيهما، ثمَّ رأينا كيف انتهى الحال اليوم. قد يحدث الأمر نفسه مع بعض من يظنون أنفسهم حلفاء لترامب عربياً، كما السعودية والإمارات، واللتين يبدو أن زعماءهما يدركون هوس ترامب بالإطراء الشخصي، وبالتالي فهم يفيضون عليه منه. ولكن هل يا ترى سيبقون قادرين على إسباغ كل عبارات الإطراء والمديح بحقه، حتى وهو يهينهم عند كل فرصة، خصوصا عند طلبه مزيدا من الدفعات مقابل الحماية، ويخذلهم حين يحتاجونه فعلياً، كما في الموضوع الإيراني اليوم؟
ما أن وصل الخبر إلى مسامعه، حتى لجأ الرئيس الأميركي إلى وسيلته المفضلة في التعبير
أمام ذلك كله، لم يكن أمام داروك غير الاستقالة، خصوصا بعد أن رفض، بوريس جونسون، المرشح المحافظ الأوفر حظا لخلافة ماي دعمه. ولكن، إذا كانت استقالة داروك، وقرب رحيل حكومة ماي، خطوتين من شأنهما تمهيد الطريق للدولتين الحليفتين، لتجاوز هذه الأزمة الدبلوماسية بينهما، إلا أن هذا لا يعني أن معضلة بريطانيا انتهت، حتى ولو جاء جونسون، الأقرب إلى ترامب تفكيرا ومنهجا، إلى رئاسة الوزراء. يظهر السلوك الذي اتبعه ترامب في التعامل مع تسريب مراسلات السفير في واشنطن بجلاء أنه ينظر إلى بريطانيا تابعا لا حليفا، وخصوصا أنه يعلم درجة حاجة بريطانيا إلى الولايات المتحدة اليوم، ذلك أنها على أبواب الخروج من الاتحاد الأوروبي. وإذا كان جونسون هو رئيس الوزراء القادم فعلا، وإذا صدق في وعده إخراج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي تماما أواخر شهر أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، فإن هذا سيعني أن بريطانيا ستكون في أمس الحاجة إلى اتفاقيات اقتصادية مع واشنطن، لتعويض خسارتها الامتيازات الاقتصادية التي توفرها لها السوق الأوروبية المشتركة.
الأخطر من ذلك بالنسبة لبريطانيا، وغيرها من الحلفاء الأميركيين الغربيين، سواء في الاتحاد الأوروبي أو في حلف شمال الأطلسي (الناتو) أنه منذ وصول ترامب إلى الرئاسة، لم تعد العلاقات البينية قائمة على أرضية استراتيجية راسخة وصلبة، بقدر ما أنها أصبحت هشّة عرضة للتقلبات، فمعيار ترامب لقرب العلاقة أو بعدها مع دول كثيرة مستوى الإطراء الشخصي الذي يسبغه عليه حلفاء بلاده وخصومها. وليس سرا أن ترامب مصاب بعقدة تضخم الأنا ومركزية الذات، وهو أمرٌ أدركه الخصوم الاستراتيجيون للولايات المتحدة، كبوتين، وبالتالي يلعبون على وتره. وعلى الرغم من تنبه المسؤولين الأميركيين إلى نقطة الضعف هذه لدى ترامب، إلا أنهم عاجزون عن كبحها. ولعل في توتير ترامب علاقات بلاده مع دول حليفة، كألمانيا وكندا، والآن بريطانيا، وقبل ذلك الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، ما يكفينا استدلالا هنا.
صحيح أن العلاقات الأميركية - البريطانية هي التي على المحك اليوم، لكن الغد المقبل قد