عندما يتكلم محافظ البنك المركزي

30 مارس 2016
عُرف عن غرينسبان الصمت المستمر خلال عمله (GETTY)
+ الخط -

 

لا أخفي إعجابي الشديد بمحافظي مجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي)، والذين يحتلون أعلى منصب مالي، ليس في أميركا وحدها، ولكن في كل العالم، بحكم التأثير الشديد للقرارات التي يتخذونها على الاقتصاد الدولي.

ولا أخفي إعجابي الأكبر بالمصرفي العبقري الآن غرينسبان، حارس الدولار الأمين و"مايسترو" عصر التقلبات المالية، ومهندس السياسة الاقتصادية الأميركية، والذي قاد دفة سفينة الاقتصاد طوال 20 سنة شغل فيها منصبه، كما تولى الرجل قيادة البنك المركزي في مرحلة حرجة.

وعُرف عن غرينسبان الصمت المستمر خلال عمله، ورفضه إجراء مقابلات مع الصحافيين ووسائل الإعلام، بل ظل صامتاً خلال 60 سنة هي فترة عمله في الحقل الاقتصادي، لم يتحدث عن نفسه طوال حياته العملية، وحتى في حال استجوابات الكونغرس له في بعض القضايا الاقتصادية والنقدية بحكم الدستور، كان يكتفي بالإجابات المختصرة والرسائل القصيرة، عيّنه رونالد ريغان محافظا للبنك المركزي في أغسطس/ آب عام 1987، وظل في المنصب حتى تقاعد في يناير/ كانون الثاني عام 2006؛ عاصر خلالها حكم أربعة رؤساء، هم ريغن وبوش الأب وكلينتون وبوش الابن.

وبالتبعية، أبدي إعجابي أيضا بمحافظة البنك المركزي الأميركي الحالية، جانيت يلين، والتي لم تنطق بكلمة واحدة منذ أشهر طويلة، رغم ترقب كل أسواق العالم والبنوك المركزية ومؤسسات النقد العالمية أية إشارات صادرة عن البنك المركزي تتعلق بمستقبل الدولار وموعد رفع أسعار الفائدة عليه، وعندما خرجت جانيت أول من أمس نطقت بكلمات معدودة، هي المطالبة بتوخي الحذر بشأن رفع أسعار الفائدة الأمريكية، ومؤكدة أن البنك سيواصل سياسته بالرفع التدريجي لمعدلات الفائدة على الدولار مع تراجع التحديات، وجددت التأكيد على توقعاتها المتفائلة الحذرة للاقتصاد الأميركي.

وينسحب الإعجاب بمحافظي البنوك المركزية العالمية الكبرى، مثل محافظ البنك المركزي البريطاني "بنك أوف إنغلاند"، مارك كارني، ومحافظ بنك اليابان المركزي، هاروهيكو كورودا، ومحافظ البنك المركزي الأوروبي، ماريو دراجي، والمحافظ الأسبق للبنك المركزي المصري، د. فاروق العقدة، والذي سكت أشهراً طويلة عقب توليه منصبه نهاية 2003، قبل أن يخرج على المصريين ويكشف لهم حقيقة القطاع المصرفي وحالات التعثر به، ويشرح أسلوبه في إدارة السياسة النقدية وسوق الصرف.

السمة الرئيسية التي يتسم بها كل هؤلاء المحافظين هي الصمت الرهيب والمستمر، فقد يظل محافظ البنك المركزي في موقعه سنوات ولا تسمع له تصريحاً واحداً، ولا يجري أية حوارات صحفية، ولا يعرف رجل الشارع اسمه، ولا يتداول اسمه في وسائل الاعلام، بل ربما يكتفي بإصدار بيانات صحافية طوال هذه الفترة في حال حدوث واقعة مهمة تستحق التعليق.

كما يتمتع محافظو البنوك المركزية العالمية الكبرى بسمة أخرى هي الانتقاء الشديد للألفاظ، فكلماتهم أغلى من الذهب، لأن كلمة منهم قد تغير مسار اقتصاد بأكمله وقطاعه المصرفي، وقد تقلب كلماتهم الدنيا رأسا على عقب، خاصة إذا ما تعلقت بأسواق الصرف والنقد والمال والتضخم وغيرها.

محافظ البنك المركزي ليس مسؤولاً سياسياً، فهو بروتوكوليا أهم من رئيس الوزراء ووزراء الاقتصاد والتجارة والمالية في أي دولة، وليس من مهامه الترويج للنظام السياسي الحاكم، بل مهمته الأولى إدارة الاقتصاد والسياسة النقدية للبلاد، والتنسيق مع السياسة المالية حتى لا يحدث تضارب، وكذلك يتولى إدارة الاحتياطي الأجنبي في الخارج بشكل كفؤ، ومن مهامه أيضأً الحفاظ على أموال المودعين عبر الرقابة القوية والمحترفة على وحدات القطاع المصرفي.

محافظ البنك المركزي المحترف يعرف متى يتكلم ومتى يصمت، لكن المتفق عليه أنه لا يجب أن يخوض على الإطلاق في القضايا السياسية والخلافية، لأن البنوك المركزية أساسها الثقة، والمودعون وعملاء البنوك وأصحاب المدخرات في حاجة شديدة لهذه الثقة، خاصة في أوقات الاضطرابات السياسية وحالات عدم اليقين السياسي، وخوض المسؤول الأول عن إدارة السياسة النقدية في أمور سياسية وخلافية قد يعرض هذه الثقة للخطر. 


دلالات
المساهمون