عندما يتحدّث فوكوياما لغة هنتنغتون

19 أكتوبر 2018

فوكومايا وهنتنغتون

+ الخط -
لم يسع المفكر السياسي الأميركي، فرانسيس فوكوياما، انتظار السقوط النهائي للاتحاد السوفييتي عام 1991، ولا حتى انهيار جدار برلين قبل ذلك بعامين، ليعلن انتصار الرأسمالية على كل ما عرفه التاريخ من أيديولوجيات. في صيف عام 1989 نشرت مجلة ناشيونال إنترسيت مقالة فوكوياما الشهيرة "نهاية التاريخ"، نعى فيها الماركسية، وقال بانتهاء عصر الأفكار الكبرى، معتبرا الديمقراطية الليبرالية ذروة سنام العقل البشري، وأقصى ما يمكن للإنسان أن ينتجه من أفكار للحكم وإدارة الاختلاف (الصراع) داخل المجتمعات البشرية، والتقدم الاجتماعي، الاقتصادي والحضاري.
استفز هذا الكلام في ذلك الوقت أستاذ العلوم السياسية في جامعة هارفرد، صمويل هنتنغتون، الذي شكك بنظرية فوكوياما، من منطلق أن الصراع مستمر، لكنه يأخذ أشكالا جديدة. مع انتهاء الحرب الباردة، قال هنتنغتون، انتقلت البشرية من عصر الصراعات الأيديولوجية والجيوسياسية الكبرى إلى عصر الصراع بين الثقافات والحضارات، حيث تتآلف الدول القومية ذات الثقافات المتقاربة، وتتحالف في إطار تكتلات حضارية كبرى، لمواجهة حضارات أو ثقافات مختلفة عنها.
للوهلة الأولى، بدا أن لأطروحة فوكوياما ما يسندها، ذلك أن عدد الديمقراطيات في العالم 
تضاعف خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين، وأخذ دفعة كبيرة من انتهاء الحرب الباردة. كما تضاعف الناتج الإجمالي القومي العالمي، مع تبنّي الصين الرأسمالية نموذجا للتنمية الاقتصادية، وإنشاء منظمة التجارة الدولية، وإلغاء القيود على حركة السلع والخدمات ورأس المال، وانتشار التعليم وتكنولوجيا المعلومات، ووسائل الاتصال الحديثة. لكن الأزمة المالية العالمية التي ضربت عام 2008، وأزمة اليورو التي أعقبتها، بدأت تلقي شكوكا حول مستقبل الرأسمالية. تضاعفت هذه الشكوك مع دخول الديمقراطية الليبرالية في حالة أزمةٍ بنيويةٍ كبرى نتيجة عجزها عن مواكبة التغييرات التي أحدثتها الثورة في تكنولوجيا المعلومات والذكاء الصناعي على صعيد العمل، والثقافة، ومستوى المعيشة، والتفاوت في الدخل، وعجز الحكومات عن مواكبة احتياجات الناخبين وتطلعاتهم، ولتبلغ الأزمة ذروتها مع انحسار المد الديمقراطي، وصعود اليمين الشعبوي، واليمين القومي في أميركا وأوروبا.
في العدد الجديد من مجلة فورين أفيرز (أغسطس/ آب 2018)، نشر فوكوياما مقالة أقر فيها بانحسار المد الديمقراطي العالمي، انزلاق ديمقراطيات غير راسخة نحو الاستبداد، بما فيها المجر (هنغاريا) وبولندا وتايلاند وتركيا، وانتصار اليمينين، القومي والشعبوي، في الولايات المتحدة ممثلا بصعود ظاهرة دونالد بترامب، وفي بريطانيا ممثلا بخروجها من الاتحاد الأوروبي، والأهم من ذلك كله صعود سياسات الهوية في المجتمعات الديمقراطية.
يرى فوكوياما أن سياسات القرن العشرين طغت عليها وحدّدتها قضايا اقتصادية ذات طبيعة أيديولوجية: في اليسار الطبقات العاملة والصراع الطبقي، واتحادات العمال، وبرامج الضمان، والرفاه الاجتماعي، وسياسات مراكمة الثروة وتوزيعها. وبالنسبة لليمين، كانت القضايا تتمحور حول حجم الحكومة، وتحديد دورها، ودور القطاع العام، وإطلاق الحرية للقطاع الخاص والمبادرة الفردية. أما اليوم فلا تلعب القضايا الاقتصادية أو الأيديولوجية دورا كبيرا في النقاش العام، فالسياسة مشغولةٌ بسؤال الهوية. وفي ديمقراطيات كثيرة، بات اليسار مشغولا، بل مهووسا، بالحديث عن مصالح الجماعات المهمشّة أو التي تشعر بالتهميش، مثل الأقليات الإثنية، والمهاجرين، واللاجئين، والنساء، والمثليين، وبات يركز أقل على قضايا العدالة الاقتصادية والاجتماعية وحقوق الطبقة العاملة. أما اليمين فيعتبر أن مهمته الكبرى اليوم هي حماية الهوية الوطنية التقليدية، والتي غالبا ما يجري التعبير عنها من خلال ربطها بالعرق، الإثنية، اللون أو الدين.
وفيما يرى فوكوياما أن هذا النقاش يغير مَيلا عاما ساد منذ أيام كارل ماركس (1818- 1883) ويعتبر أن الصراع البشري اقتصادي - اجتماعي طابعه نفعي، إلا أن للإنسان، إلى جانب مصالحه الاقتصادية، دوافع ومحدّدات سلوك أخرى متصلة بالاعتراف به، ومرتبطة برؤيته لنفسه، وبضرورة احترام كرامته ورفض الاعتداء والمهانة والانتقاص من قيمته الإنسانية. وفي مجتمعات بشرية عديدة اليوم، لدى جماعات مختلفة شعور عميق بأن هوياتها، قومية أو دينية أو إثنية أو جندرية، لا تحوز على الاعتراف المطلوب بها، ما يدخلها في صدام مع جماعات أخرى في محيطها أو محيط مجاور لها. بمعنى ما إنه صراع ثقافي، جوهره هوياتي. إنما ليس بين الحضارات على نحو ما ذهب إليه هنتنغتون، بل داخل الحضارة الواحدة. هنا تتفتت الأمم (الديمقراطية وغير الديمقراطية على السواء) إلى هويات أصغر، ما يهدّد بانهيار دول وتمزق مجتمعات. وما لم تتمكّن الديمقراطيات الليبرالية من إيجاد طريقها إلى مفهوم أكثر عالمية للكرامة الإنسانية، فإنها تواجه بهذا الصدد تحدياتٍ وجودية.
لقد أنتجت العولمة وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات تحولات اقتصادية واجتماعية سريعة 
وعميقة، جاعلة المجتمعات أكثر تنوعا من أي وقت مضى، ومغذيةً الحاجة إلى الاعتراف من جماعات هامشية لم تكن يوما مرئيةً بالنسبة للتيار الاجتماعي العام السائد داخل الأمم والمجتمعات. وقد أدت هذه المتطلبات إلى نشوء صراع بين الجماعات التي تشعر بالضياع وتطالب بالاعتراف، في مواجهة جماعاتٍ أخرى لها قيمها المختلفة، ما يخلق حالةً من التوتر والصراع الذي قد يأخذ أشكالا عنيفة في بعض الأحيان.
هنا قد لا يكون ما يحدث في العالم العربي من صراع طائفي وقبلي وحروب أهلية خارج السياق العالمي، فالمنطقة العربية طالما تأثرت بما يجري في العالم وتفاعلت معه. ومن هنا، يغدو أيضا الحديث عن جمود في العالم العربي، أو عن أنه يعيش خارج السياق الدولي المعاصر غير دقيق. فالمنطقة العربية من أوائل المناطق التي غزتها الأفكار الشيوعية (تأسس الحزبان الشيوعيان، الفلسطيني عام 1923 والسوري 1924) كما كانت من أوائل المناطق في العالم التي غزتها الأفكار القومية التي اكتسحت أوروبا في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر (خصوصا في ألمانيا وإيطاليا). وتعرضت كغيرها للأفكار الليبرالية، وتبنت جماعاتٌ من نخبها الفصل بين الدين والدولة منذ مطلع القرن العشرين، وها هي اليوم تدخل في صراع هوياتي في سياق عالمي أيضا، نحتاج معه جميعا الى تبني مفهومٍ أكثر عالمية للكرامة الإنسانية والاستعداد للاعتراف بالآخر المختلف عنا.
في المحصلة، يبدو أن فوكوياما استعجل إعلان انتصار الرأسمالية، واستعجل أكثر في اعتبار أن تاريخ الأفكار انتهى بموت الماركسية، وانتصار الديمقراطية الليبرالية، فما زال أمامنا طريق طويل لحل التناقضات والصراعات بين المجتمعات البشرية وداخلها، قبل أن نعلن انتصار الإنسانية.
AA8F4D7D-04C2-4B96-A100-C49FC89BAEBA
مروان قبلان

كاتب وباحث سوري