عندما لم تعد الحياة والموارد "مشي الهوينى"

04 سبتمبر 2015
+ الخط -
كتبت في المقالة السابقة (20 أغسطس/آب 2015) أن الحضارة تشكلت حول الحياة والموارد، مرموزا إليها بمشي الفلاح الهوينى وراء بقرته من بيته إلى الحقل والعودة إلى البيت.. أنت تسير الهوينى كل يوم ذاهباً إلى مزرعتك وعائدا إلى بيتك، في إيقاع واحد منتظم، لا تستطيع أن تسرع أو تبطئ أكثر من سرعة البقرة.. ماذا يعني ذلك؟ 
يجب أن تكون آمنا، فأنت لا تستطيع الهرب، إذا هاجم الأعداء قريتك! ويجب أن تكون قويا وشجاعا بالقدر الذي تردّ لصا أو وحشا عابراً. تحتاج لأجل ذلك وفرة في الموارد والوقت، لأجل المقاتلين والسلاح والخيل والتدريب والقتال. ولكن، في شغل الناس وقلة عددهم ومحصولهم، فإنك تطور منظومة من العلاقات والتعاون، لتردّ عداء الناس وشرهم أو للاحتماء منهم. أنت لا تملك الرغبة والوقت للقتال، فتطعم العابرين والناس وتبيع وتشتري في السوق، فيحمي الناس مصالحهم وحياتهم وأسواقهم بمنظومة من القوانين والأعراف وتبادل المصالح، وتكون القوة مسألة احتياطية، تشكيلة قليلة مشتركة من المقاتلين، أو مبلغاً يدفع للمقاتلين مقابل الدفاع والجيرة عند الحاجة.. تتعاون القرى فيما بينها لإنشاء أسواق ومركز وإدارة لحماية وتنظيم حياة ومصالح مجموعات من الناس من الفلاحين والرعاة والبدو والتجار والمهنيين في دائرةٍ لا يزيد قطرها غالبا على خمسين كيلومتراً.. على النحو الذي يمكّن الناس من الذهاب إلى السوق في الصباح والعودة في المساء.. وهكذا نشأت منظومة العدل والأمن والشجاعة والكرم والأسواق والموارد، لكنها منظومة لا تحميها تشكيلات متفرغة ومنظمة من الأمن والجيش، ليس سوى أعداد من الحراس والفرسان تسندهم عند الحاجة قوات أكثر، تتجمع على عجل من أشخاص هم مشغولون أساسا في حياتهم اليومية.

وهنا، تنشأ معادلة دقيقة وتوازن صعب بين الموارد والوفرة والقوة والمصالح، وعلى الرغم من تعقيداته ومتوالياته، فإنها محكومة بذاكرة مشي الهوينى، .. الذاكرة هي الضمان الوحيد لهذه المنظومة والحضارة، أن تتذكر أنك تمشي الهوينى، لا تستطيع الهرب، كيف لا يهاجمك الأعداء والجائعون واللصوص والغرباء؟ كيف يظل لديك وفرة ترد بها الأعداء والحاسدين؟ ماذا يحدث عندما تختل المعادلة، ولا تستطيع مشي الهوينى؟
تتحول إلى مقاتل يحمل السلاح ليدافع عن نفسه وأسرته، ما يعني بالضرورة أن تستغني عن البقرة والمزرعة، لا مصدر للرزق سوى رعي الغنم أو الإبل، والنهب والسلب! أو تهاجر إلى قرية أو مدينة آمنة، وتغير عملك ومواردك، ففي القرية سوف تستأجر أرضاً ليست لك، أو تشتغل أجيرا، وفي المدينة تبحث عن عمل يتفق مع خبراتك وقدراتك، وأنت لا تعرف غير الزراعة.
وربما يستتبعك المقاتلون والغزاة من البدو، أو الغرباء القادمون من بعيد، وتتحول إلى تابع لديهم يعمل لحسابهم، كل ما تزرعه وتنتجه هو للمقاتل مقابل أن تعيش فقط! لا تعود متحمساً للعمل والإنتاج، أو تفقد آمالك في بناء بيتك وتطويره، وتربية أبنائك وتشغيلهم... لست سوى عامل، لكنك لا تدرك أنك عامل.. تظن نفسك مزارعا يملك أرضه بالفعل، وتظل تؤمل في وفرة تزيد على ما تدفعه من ضرائب.
ويكتشف المقاتل حياة جديدة في المدن والأسواق، فينشئ تحالفات جديدة مع التجار، ووكلاء في القرى ينوبون عنه في أعماله، يكون الأمن والدفاع باسمه، أو يكون اسمه كافيا لأجل ذلك، ويحصل على المال والبيوت في المدينة من التجار مقابل تمكينهم من الأراضي والغلال. ويتحول سوط المقاتل إلى أنماط من الحياة والمنتجات، يتهافت عليها الفلاحون. وفي أحيان، إذا ساعدت الجغرافيا ينشئ الفلاحون قراهم في مناطق محصنة وعرة، يصعب غزوها والوصول إليها. وفي ذلك متوالية من العزلة وأسلوب الحياة.. والخراب أيضا!
فالمقاتلون والرعاة والوافدون الجدد إلى المدينة لا يدركون أن المدن والأسواق كانت محصلة للفلاحة، وأن المدن نفسها تبدأ بالتحلل، عندما اختفت القرى الزراعية، وتكون الخيارات البديلة هي "الإقطاع" يمتلك الأغنياء هذه القرى، ويشغلون فيها فلاحين أجراء، وفي ذلك تكلفة أكثر وإنتاج أقل، وتتواصل الهجرة إلى البادية والعودة إلى البداوة أو البحث عن قرى حقيقية، يملكها وينظمها أصحابها وينتظمها معا مركز أو مدينة!
ولكن، في التحول إلى الصناعة والمعرفة، لم يعد ثمة حاجة ابتداء إلى تلك المنظومة "مشي الهوينى"، تشكلت الموارد مستقلة في أدواتها وإيقاعها عن الزراعة "الفلاحية" بمعنى العمل والإنتاج العائلي الذي يحتاج إلى إقامة بالقرب من المزارع، وإلى عمل يدوي واسع، ويشارك فيه جميع أفراد العائلة. تحولت الزراعة إلى استثمار أو صناعة تقوم على آلات وعمال وفنيين يذهبون، بوسائل النقل الحديثة، إلى عملهم في الصباح، ويعودون إلى بيوتهم التي قد تكون بعيدة عن المزرعة مائة كيلو متر أو أكثر.
كانت هذه المقالة وسابقتها ضرورة كما ظننت، لأجل التفكير والتأمل في المدن الجديدة المفترض أن تقوم حول الصناعة والمعرفة والعلاقات والموارد الجديدة التي تشكل المدن. ويسبق ذلك ملاحظة ما حدث ويحدث للهرم الحضاري من الموارد والطبقات والمدن والمؤسسات والحرف والأعمال والأسواق، والذي تشكل وترسخ عبر آلاف السنين. العالم يتحول من الهرمية إلى الشبكية، وفي ذلك ما يدعو إلى التأمل والتفكير.
 
دلالات
428F6CFA-FD0F-45C4-8B50-FDE3875CD816
إبراهيم غرايبة

كاتب وباحث وصحفي وروائي أردني، من مؤلفاته "شارع الأردن" و"الخطاب الإسلامي والتحولات الحضارية"، وفي الرواية "السراب" و"الصوت"