في يوم رتيب من أيام الأسبوع، أحاطني الضجر من كل جانب. نزلت إلى الشارع، لعلي أعدّل مزاجي اللعين. الصخب كان يعمّ المكان. السائقون العموميون يطلقون أبواق سيارتهم على نحو مسعور. لعنتهم بسرّي، ومضيت قاصدة إحدى المكتبات. لطالما أراحتني الكتب. أدمنت رائحتها منذ المراهقة وحفظت قول الكاتب الأرجنتيني خورخي بورخيس: الفردوس سيكون على هيئة مكتبة.
انطلقت أشق طريقي في تلك المدينة البائسة. في أحد شوارعها المكتظة، اختلط الحابل بالنابل. على جانب الطريق، بائع خضار. هو نفسه تاجر أحذية. الرجل كان يحشو الأحذية المكدسة في ركن صغير من بسطته. قلت في سرّي: "يا سيد، أن تضع حذاءً الى جانب باقة البقدونس، أمر غير صحيّ. لن أحذّرك من هذا الأمر، فأنت لن تأبه لي على أيّة حال".
في ناحية أخرى، محل حلاقة صغير. الحلّاق نفسه، كان طبيباً بدوام إضافيّ. تقول اللافتة المعلّقة على باب المحل: "أداوي الأمراض الجلديّة المستعصية". ابتسمت للرجل الستّينيّ. كان في نظرته شيء محبّب، ربما لأنّه كان يشبه أنسي الحاج، أو ربما لأنّه خيّل إلي أنّ حلمه بأن يصبح طبيباً قد تبدّد بفعل مهنة الحلاقة التي ورثها عن أبيه. لم أشأ أن أحلّل أكثر.
تابعت سيري. "دخيلك يا إمّي مدري شو بني. تركيني بهمّي زهقانة الدني". صدح صوت فيروز من محل صغير للحليّ في زاوية الشارع. فيروز كانت مسكّن مزاجي السيّئ. اقتربت من الواجهة. منظر دبابيس الشعر الكريستال، نبّهني إلى اقتراب عيد ميلاد صديقة لي مولعة بالإكسسوارات. ما إن اجتزت عتبة الباب، حتى ظهر أمامي رجل قسماته فظة لا تشبه أنسي الحاج. لا بدّ من أنّه مالك المحل. كانت لديه سن ذهبية. لم أكن قد رأيت رجلاً بسنّ ذهبيّة إلّا في الأفلام. رمقني بنظرة غريبة، ارتعدت منها. لطالما أصبت بحدسي، فابتعدت عن الواجهة وأنا أقول في سرّي: "كيف يمكن لهذا الشنيع أن يحبّ فيروز. عليّ أن أركض".
وصلت إلى المكتبة. توجهت إلى قسم الأدب الروسي الذي أفضّله عن غيره، باحثة عن مؤلّف لأنطون تشيخوف. الأسماء كثيرة، فتوجّهت الى أحد العاملين. كان صبياً مراهقاً يضع في رقبته قلادة فضيّة، رُسم عليها علم إحدى الأندية الإسبانيّة لكرة القدم، ويلفّ معصمه بشريطة كتب عليها "ليو". فكّرت: "كم سيكون مضحكاً لو أن ليو تولستوي بلحيته الكثّة، لاعب كرة قدم".
سألته: "عندك كتاب لأنطون تشيخوف؟". ابتسم الصبي ابتسامة بلهاء. "تشيخوف. كاتب روسي". بالنظرة البلهاء ذاتها، قال: "شو هيدا طنجرة ضغط؟". نظرت في عينيه وقلت له: "لا عليك. عندك شيء لإحسان عبد القدّوس؟". براحة أجاب: "نعم. أظن أن لها كتاباً في تلك الزاوية".