عندما تكون الأشجار كل مملكتك

02 مايو 2019
+ الخط -
أعشق الخضرة، وأشعر براحة نفسية لا حدود لها وأنا أمشي بين الزراعات الخضراء والحقول المثمرة، ولا توصف سعادتي عندما كانت كفاي الصغيرتان، وأنا طفل لم يتجاوز السابعة من عمره، تلامسان عيدان القمح والذرة والأرز والحمص وغيرها من المحاصيل التي كان يزرعها والدي رحمه الله.

وكنت أطير فرحاً عندما تلامس وجهي ورقة عود قصب السكر "الزعزوعة"، رمز الخير في صعيد مصر، أو تقع عيني على غصن زيتون تتدلى منه زهرة مثمرة، وكان العيد بالنسبة لنا، الصغار والكبار، عندما نرى عود قصب السكر وقد تحول في العصارة الواقعة وسط الزراعات إلى عسل أسود أو إلى سكر أبيض.

وعشقي للأشجار والنخيل أكبر، ليس فقط لأن الأشجار رمز العطاء، ومصدر الهواء الرطب في صيف شديد الحرارة خلال شهور الصيف، وليس لأن المارة يستنجدون بظلها عندما يلحف وجوههم اللهب الشديد الذي يشبه الصهد، وليس لأن الأشجار كريمة ومعطاءة، تعطي ولا تأخذ، تمنح ولا تنتظر شكراً من أحد، يفوق كرمها كرم حاتم الطائي، بل لأن الأشجار هي كذلك، العش الدافئ والمفضل والآمن للعصافير والبلابل والطيور، وأحيانا للأطفال الصغار الذين يهربون إليها من حرارة الجو عندما كانوا يعملون في الحقول إلى جوار آبائهم.

والأشجار ومعها النخيل كذلك مصدر الغذاء الرخيص للفقراء وغالبية سكان القرية خاصة تلك الأشجار المثمرة الواقعة وسط الزراعات وعلى الأنهار الصغيرة توزع خيراتها على مدار الساعة.


وإلى جوار أشجار التين الشوكي الواقعة على أطراف الحقول كانت أشجار عباد الشمس تتمايل مع الشمس، تفوق في روعتها ولونها وخجلها أشجار الزينة عند الغروب، وكان منظر العصافير وهي تلتقط حبة ذرة من أعلى العيدان الخضراء يرسم صورة جميلة للعين، يكمل تلك الصورة الفنية الرائعة التي كان تأخذ قلوبنا نحن الصبية خاصة في فترة الصباح الباكر.

حتى الأشجار التي كانت تجرح أيدينا وأحياناً تنهش أجسادنا النحيفة مثل التين الشوكي والليمون والبرتقال واليوسفي، كنا نعشقها نحن الصغار، ليس بسبب ثمارها وحسب، ولكن بسبب لونها البديع ومشاكستها لنا كلما نمر بجوارها.

وفي المساء يرسم غروب الشمس التي تختفي عند الجانب الآخر من الجبل والمقابر لوحة تشكيلية يعجز أي فنان عن التعبير عنها، خاصة عندما تلامس أشعة الغروب أطراف عيدان القصب الصامدة، أو تأخذ معها عيدان عباد الشمس التي تروح في نوم عميق.

حتى الأشجار التي لم تكن تطرح ثمرة كنا نعشقها نحن الصغار مثل أشجار الصفصاف التي كانت تتميز بأوراقها المتلألئة الجذابة وأغصانها المتهدلة ونموها الأخضر الكثيف، كانت هذه الأشجار التي كنا نعدها من أشجار الزينة المميزة تملأ القرية حيث كانت تتواجد على ضفاف الجداول والبرك والأنهار كونها من الأشجار التي تحبّ المياه بكثرة.

أما شجر السنط أو شجرة الصمغ العربي فكنا نتسابق نحوها نحن الأطفال حيث كانت المنقذ لنا عند تمزق الكتب والكراريس، كنا نجري نحوها لانتزاع الصمغ من جذع الشجرة ولصق ما تمزق من كراريسنا وكتبنا حتى لا نعاقب في الصباح، وأحياناً ننتزع منها الأخشاب ليقود لنا وقوداً في ليالي الشتاء القارس.

كان منظر ورقة شجرة العنب يشدني خاصة في الصباح عندما كانت تكسوها حبات الندى اللؤلوية، أو ورقة شجرة الموز التي تحمل مياهاً عذبة تخزنها لنا نحن الأطفال لنتسابق على شربها في الصباح، كنا ننبهر بأوراق شجرة التين، تلك الثمرة المحببة لنا، كنا نجري نحن الأطفال عقب صلاة الفجر نحو شجرة التين الحارسة للقناطر الغربية الواقعة على أطراف قريتنا من ناحية الشمال الغربي لنجمع ما سقط منها طوال الليل قبل أن تدهسه أقدام الحيوانات وهي تتجه نحو الحقول، وبعدها ننتقل كالفراشات لشجرة النبق والبلح لنجمع أكبر كم من الثمار نذهب بها إلى أمهاتنا فرحين وكأننا جمعنا صيداً ثميناً.

ببساطة، كانت الأشجار مملكتي الخاصة وأنا طفل صغير، بيتي الثاني الذي آوي إليه عندما أبحث عن الجمال والراحة النفسية والرقة، أو عندما أفكر في صنع الله وإبداعاته وجماله.

وبسبب عشقي للأشجار كنت أتسلقها حتى آخر فرع يتحمل جسدي النحيف، كنت أسابق رفاقي الصغار على القفز من أعلى جذع الشجرة إلى الأرض دون أن نضع في حسباننا مخاطر هذه القفزات الخطرة، كنا عندما نعوم لساعات في ترعة القرية المتفرعة من الترعة الإبراهيمية ويصيبنا التعب من سباقات السباحة التي لا تنتهي كنا نسارع نحو شجرة الصفصاف لنستظل بها وننام أسفلها، وأحياناً ننام وسط زراعات القصب الرطبة، وكنا نفاجئ ساعتها والمياه تدخل آذاننا ونحن نيام، حيث كان الآباء يسقون الزرع دون أن يعلموا أننا نختبئ داخل حقول القصب من الحر الشديد.

كنت أتخذ من الأشجار سريراً للنوم الهادئ المريح، حيث كنت أتسلق شجر الجميز أو الصفصاف الضخمة، وعلى أحد أفرعها أنام، وكنت عندما أريد أن أذاكر دروسي وأنا في المرحلة الابتدائية أتسلق شجرة ضخمة عمرها قد يفوق عمر والدي وأجلس على أحد فروعها، وأذاكر وسط أصوات العصافير، ومع الأشجار عشقت القراءة والأدب والجمال، ومعها كنت أسمع أصوات عبد الحليم حافظ أو أم كلثوم أو نجاة الصغيرة التي كانت تأتي من راديو ترانزستور يشدو من مقهى يقع على الجانب الآخر من الترعة.

المغامرات الطفولية تلك مع الأشجار لم تخلُ من مخاطرات طريفة وأحياناً خطرة، ففي أحد المرات تسلقت نخلة طويلة تقع على أطراف الحقل، كنت أريد أن أقطف بلحاً خاصة وأنني جعت في هذا التوقيت وتكاسلت عن الذهاب للبيت لتناول وجبة الغذاء، وبسبب جسمي النحيف وصلت أطراف النخلة العليا بسرعة.

ومن بين جريد النخل مددت يدي لأقطف مجموعة من البلح الأصفر الذي كان يتدلى وكأنه حلق ذهبي في أذن سيدة جميلة، أو قطعة لؤلؤ مدلاة بسلسلة في رقبة امرأه فائقة الجمال، وما إن مددت يدي حتى وجدت ثعباناً يسكن وسط النخلة..

كانت توصيات أبي، رحمه الله، لي هي أنه عندما ترى ثعباناً أو كلباً، لا تخفْ، ولا تجرِ، ولا تصدر صوتاً عالياً حتى لا تستفزه، تماسكت أعصابي، سحبت يدي النحيفة في هدوء بعد أن كادت تصل لأول بلحة، نظرت لأسفل فوجدت أخي الأكبر، أشرت له بيدي اليسرى، حيث كانت يدي اليمنى تمسك بجذع النخلة جيداً حتى لا أسقط، فهم من إشارتي أنني في ورطة، وأن هناك ثعباناً يسكن قلب النخلة، كان سكن الثعابين في قلب النخيل أمراً متعارفاً ومألوفاً، أصدر أخي إشارة لي تعني ألا أتحرك، وأن أقف مكاني، وأن أتماسك حتى لا أسقط على الأرض، وأن أمسك بجذع النخلة بقوة، وما هي إلا ثوانٍ حتى صعد أخي إلى قمة النخلة لينقذني من هذا الموقف وليحملني على كتفه الصغير لأسفل.

أما قصتي مع شجرة الجميز الضخمة الواقعة على حافة الترعة التي كانت تحيط بقريتنا من ناحية الشرق والشمال فكانت حديث القرية، ما زلت أذكرها بتفاصيلها الدقيقة حتى اللحظة، في ظهر يوم شديد الحرارة، تسلقت الشجرة ومعي كتابي المدرسي حيث بدأ موسم المذاكرة ولم يبقَ سوى أيام على موعد امتحانات نهاية العام، اخترت أعرض فرع بالشجرة حتى أجلس عليه بلا قلق، كان هذا الفرع يقع أعلى منتصف الترعة مباشرة، وما أن مرت دقائق على تسلقي فرع الشجرة وجلوسي عليه حتى تهاوت، لقد اقتلعت الريح جذورها وألقت بها كاملة فوق الترعة لتسدها من أعلى، ثوانٍ وسقط جسمي النحيف من فوق فرع الشجرة إلى قاع الترعة، كنت أجيد السباحة شأن كل أطفال القرية، وما إن خرجت من قاع الترعة إلى سطحها حتى وجدت فروع الشجرة كاملة فوق رأسي، لا أرى سماءً ولا بشراً ولا شاطئاً، أنا تحت الشجرة والمياه، لحظات صعبة مرت علي، إلى أن هداني الله لحيلة وهي أن أغطس باتجاه المياه حتى أخرج بعيداً عن الشجرة.
دلالات
مصطفى عبد السلام
مصطفى عبد السلام
صحافي مصري، رئيس قسم الاقتصاد في موقع وصحيفة "العربي الجديد".