تعيد محاولة اغتيال اليهودي المتطرّف يهودا غليك، ليلة الخميس الماضي، إلى الأذهان بشكل تلقائي ومباشر، عمليّة اغتيال الوزير الإسرائيلي السابق وداعية "الترانسفير"، رحبعام زئيفي، في أكتوبر 2001، بفعل أوجه الشبه الكبيرة بين العمليتين.
فالعمليتان وقعتا في قلب مدينة القدس، علماً أنّ فندق "هيات" (حياة) الإسرائيلي، مشيّد عملياً وراء الخط الأخضر، في الجزء الذي تمّ احتلاله عام 1967 والمجاور للجامعة العبريّة وللمقرّ الرسميّ والرئيس لشرطة إسرائيل، بينما يقوم مركز "ميراث بيغن" في قلب الشطر الغربي من المدينة، على مقربة من فندق الملك داود الأشهر في القدس، والذي كان رئيس حكومة إسرائيل الأسبق، يتسحاق شامير، بين منفذي عمليّة تفجيره في عهد الانتداب البريطاني.
وعدا عن كونهما داخل العمق الإسرائيلي، فإنّ القاسم المشترك الثاني للعمليتين، هو كون المستهدف فيهما معروف ومحدد مسبقاً، وليس هدفاً عشوائياً، ممن قد يتصادف تواجده في موقع العملية، بدليل أن نائب رئيس الكنيست المتطرف موشيه فيغلين، أفاد للإعلام بأنّه كان على مقربة من غليك، وأن مطلق النار عليه (الشهيد معتز حجازي) سأله باللغة العبريّة بلكنة عربية ثقيلة، قبل إطلاق النار عليه، هل هو يهودا غليك أم لا.
ويتمثّل القاسم المشترك الثالث، في أنّ العمليتين، تطلبتا بداية جمع معلومات أوليّة ورصد لمكان وجود الهدف، ما يوحي بتنظيم نوعي في العمل، وخصوصاً أنّ عملية زئيفي، كما بيّنت ظروفها وملابساتها، تطلّبت مستوى عالياً من الدقّة في التنفيذ والجرأة لاقتحام فندق يُفترض أن يكون خاضعاً لحراسة مشدّدة. وفي حالة غليك، فإنّ الموقع الذي اختير لتنفيذ العملية، وهو مركز "ميراث بيغن"، له دلالة خاصّة في إسرائيل.
وإلى جوانب هذه القواسم المشتركة بين العمليتين، فإنّ اختيار القدس وتحديداً الغربيّة، لعمليات اغتيال مقصودة يشكل تحدياً خاصاً من نوعه، للسيادة الإسرائيليّة في القدس الغربيّة، قبل الحديث عن السيادة الإسرائيليّة في الشطر الشرقي من المدينة، والذي تمّ احتلاله عام 1967. من هنا، يمكن فهم مطالبة وزير الاقتصاد الإسرائيلي، نفتالي بينت، أمس رداً على العمليّة، باستعادة السيادة الإسرائيليّة على القدس، بعد أن كانت الهيئة العامة للكنيست، ناقشت قبل يومين، مسألة فقدان الأمن وعدم "تطبيق القانون الإسرائيلي في الأحياء العربيّة"، في محاولات لتقزيم وإخفاء حقيقة الانتفاضة المشتعلة في القدس منذ قتل الشهيد محمد أبو خضير قبل نحو ثلاثة أشهر.
ومع أن إسرائيل ستحاول، بطبيعة الحال، توظيف العمليّة إعلامياً لمواصلة التحريض على الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس، كجزء من تكتيك الفصل بين المقدسيين وبين باقي الشعب الفلسطيني، واعتبار أنّ "السكان العرب" في القدس يريدون العيش بهدوء، لولا تحريض العناصر الفلسطينيّة المختلفة، وكان وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي حصرها أول من أمس بالسلطة الفلسطينيّة وحركة "حماس" و"الحركة الإسلاميّة الشماليّة"، لكنّه من الواضح أنّ تأثير عملية غليك سيشكّل هذه المرة كياً للوعي الإسرائيلي وللسكان الإسرائيليين، بحقيقة الأمر القائم في القدس المحتلة، وانعدام الأمن للمحتلين ما دام الشعب الواقع تحت الاحتلال يعاني من ممارسات احتلاليّة وقمعيّة متواصلة.
وكان المئات من المستوطنين الذي يعيشون في مستوطنات، شمالي القدس، مثل نافيه يعقوف وجفعات زئيف وغيرها أعلنوا وأقروا لوسائل الإعلام العبرية في الأسابيع الأخيرة، بتسليمهم بحالة انعدام الأمن، وبتنازلهم عن ركوب حافلات الترام الخفيف، الذي يصل بين جنوبي القدس وشمالها، نتيجة انعدام الأمن فيه وتعرّض حافلاته بشكل دائم للرشق بالحجارة والزجاجات الحارقة عند مرورها من بيت حنينا وشعفاط.
وقد تجرّ محاولة اغتيال غليك، على صعيد المشهد الإسرائيلي، نوعاً من الجدل من قبل المعارضة الإسرائيليّة الهزيلة، بشأن ضرورة البحث عن تسوية وأفق سياسي، لكنّ النغمة الطاغية ستكون لليمين الإسرائيلي الذي سيطالب بمزيد من الوحشيّة في التعامل مع المقدسيين وتحويل حياتهم إلى جحيم، مع زرع بؤر استيطانية جديدة، وتكثيف الدعوات والضغوط على حكومة نتنياهو لتحقيق مطالب غليك ومن يدعمه في الحكومة الإسرائيليّة، أي حزب البيت اليهودي بزعامة بينت، وأوساط واسعة من الليكود وعلى رأسها نائب رئيس الكنيست موشيه فيغلين، ورئيسة لجنة الداخلية ميريت ريجف (وكلاهما من الليكود). ويطالب هؤلاء بتطبيق فكرة التقاسم الزماني والمكاني للصلاة في المسجد الأقصى، على غرار ما حدث في الحرم الإبراهيمي الشريف في الخليل، ناهيك عن تكثيف دعوات هدم بيوت "المخرّبين" وطرد راشقي الحجارة والزجاجات الحارقة خارج حدود القدس، أو على الأقلّ الزج بهم وراء القضبان.
وتدرك حكومة الاحتلال، التي حاولت التغاضي عن أحداث "انتفاضة القدس الهادئة"، وفق تعبير الصحف العبريّة، و"انتفاضة الأطفال" وفق المصادر ذاتها، أنّ محاولة اغتيال غليك تضعها أمام محكّ مواجهة واقع القدس وحقيقة كلفة الاحتلال، على الأقلّ على مستوى منع "حياة روتينيّة وعادية" في القدس "كعاصمة موحّدة لإسرائيل". ولن يكون بمقدور الحكومة، بطبيعة الحال، مواصلة التصرّف كالنعامة وإخفاء تقارير الشرطة وجهاز الأمن العام "الشاباك" عن الأحداث المتواترة والمتصاعدة في أحياء القدس المحتلّة، مهما حاولت التستّر على ذلك، عبر الدفع بآلاف عناصر الشرطة وحرس الحدود لترسيخ الأمن الشخصي للإسرائيليين في القدس المحتلّة.