عملية تل أبيب: رحلة البحث عن معادلة لكسر الانتفاضة

11 يونيو 2016
إجراءات أمنية مشددة ضد الفلسطينيين في بيت لحم(وسام حشلمون/الأناضول)
+ الخط -
بدّدت عملية تل أبيب، مساء الأربعاء الماضي، الوهم الذي حاول زرعه كل من رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، وأجهزة الاحتلال المختلفة، وتقارير الصحافيين بشأن انخفاض وتراجع الهبّة الفلسطينية في الأراضي المحتلة. وأتت هذه العملية لتؤكد أن الشعب الفلسطيني لم يستسلم، وهو ما دفع الصحافية، سيما كدمون، إلى الاعتراف بشكل لافت بأن الإسرائيليين يعيشون في الواقع على فوهة بركان، يهدأ أحياناً ويثور أحياناً أخرى. وانشغل المحللون العسكريون في مسألة خيارات إسرائيل في مواجهة المعادلة الجديدة، والمتمثلة أولاً بتحوّل الانتفاضة والهبة الفلسطينية من عمليات الطعن في السكاكين، التي سادت بشكل خاص في الأشهر الأخيرة، في منطقة الخليل، إلى عمليات إطلاق النار، لا سيما في قلب الأراضي المحتلة، مع وجود "مخزون وافر" من الناشطين الفلسطينيين الذين يتمكنون من التسلل إلى إسرائيل للعمل فيها من دون تصاريح ومراقبة، ويطلق عليهم بالعبرية تعبير "شباحيم" والتي تعني في تعبير مجازي "أشباحاً"، في إشارة إلى عدم قدرة الاحتلال على وقف هذه الظاهرة.

لعل ما يعزز هذه المخاوف، بحسب اعتراف كل من المحلل هاموس هرئيل في صحيفة "هآرتس"، والكاتب أليكس فيشمان في "يديعوت أحرونوت"، والمعلق عمير ربابورط في "معاريف"، هو حقيقة كون كافة العمليات التي وقعت في قلب إسرائيل: تل أبيب، بيتح تكفا، وبئر السبع، وغيرها، نفذّها فلسطينيون تمكنوا من التسلل إلى إسرائيل بطرق "غير قانونية" وبدون تصاريح عمل. وكانت التقارير الإسرائيلية السابقة التي قدّرت عدد الفلسطينيين العاملين بدون تصاريح بنحو 45 ألف فلسطيني، مع معرفتهم للبيئة التي يعملون فيها، وسهولة الحصول على الأسلحة، وخاصة بنادق من طراز "كارلو غوستاف"، التي تصنّع محلياً في فلسطين. وتسمح هذه التقارير بالاستنتاج بأن الإسرائيليين باتوا يدركون مدى حجم "التحدي" الذي يفرضه هذا "المخزون" من الفلسطينيين، خاصةً في ظل سهولة اختراق الجدار الفاصل والسياج في منطقة الخليل وجنوبي الضفة الغربية.

وفي هذا السياق، يرى هرئيل أن اللجوء إلى عمليات من نوع جديد توقع إصابات أكبر بات يمثل توجهاً لافتاً لدى الفلسطينيين في الفترة الأخيرة، وذلك على ضوء الحجم المتدني من الإصابات في الطرف الإسرائيلي التي أوقعتها عمليات الطعن، مقابل الثمن الباهظ في الجانب الفلسطيني.

ويقر كثير من المعلقين في الصحافة الإسرائيلية بأن عملية تل أبيب تشكل امتحاناً لسياسة وزير الأمن الجديد أفيغدور ليبرمان، بعدما اعتاد، حتى عندما كان وزيراً في الحكومة السابقة، إطلاق تصريحات وتحذيرات، كان يدرك أنها لن تترجم ما دام بعيداً عن دائرة القرار الفعلي. ويرى عمير رابابورط أن الامتحان سيكون أيضاً لرئيس الشاباك الجديد، نداف أرجمان، لكنه يشير إلى أن الخطوات المقبلة، والتوصيات التي ستصدر عن المشاورات الأمنية، لن تأتي عملياً بأي جديد، ولن تفضي إلى تحول كبير في السياسة الإسرائيلية، لأن كل ما يعلن عنه من خطوات عقابية أو إجراءات متشددة جديدة لن تختلف عن سابقاتها، لا سيما أنه تمت تجربتها في السابق.

ويكرر رابابورط، في هذا السياق، ما بات معروفاً، بأن "أجهزة الأمن الإسرائيلية لا تملك حلولاً سحرية يمكنها خفض عدد العمليات إلى الصفر، ولا حتى تحت قيادة ليبرمان، بل إن عملية برية واسعة النطاق على غرار عدوان "السور الواقي" في عام 2004، ليست واردة بالحسبان، إذ إن السيطرة الأمنية والاستخباراتية في الضفة الغربية جيدة حتى بدون الحاجة لعملية كهذه.

في المقابل، يبدو الكاتب رون بن يشاي في موقع "يديعوت أحرونوت"، الوحيد الذي يعوّل على سياسة الطوق الأمني المحكم على قرية يطا، التي جاء منها منفذا عملية تل أبيب، أبنا عائلة مخامرة. ويقول بن يشاي في هذا الصدد، بعد استعراضه للطوق الأمني المماثل الذي فرضه الاحتلال قبل خمس سنوات على قرية عورطا، جنوبي نابلس، بعد عملية مستوطنة إيتمار، إن الطوق على يطا يهدف بالأساس إلى توجيه رسالة واضحة لسكان القرية حول دلالات وتبعات العقاب الجماعي المفروض عليهم لدرجة المسّ ليس فقط بحريتهم في حياتهم اليومية وإنما أيضاً كأداة اقتصادية لضرب مجمل السكان في البلدة، وبالتالي يتوقع الكاتب أن يدوم هذا الطوق طويلاً. ويرى أن هناك من سيعتبر هذا الطوق نوعاً من العقاب الجماعي، في حين سينظر إليه أخرون باعتباره وسيلة ردع للمستقبل، وسيعتبره الآخرون نوعاً من التغيير في توجه الجيش بما يتناسب مع توجهات وزير الأمن الجديد، وهو ما يرجح استمرار هذا الطوق لوقت طويل.


ويعترف رون بن يشاي بأنه على الرغم من نجاح النشاط المكثف لأجهزة الأمن الإسرائيلية في إحباط عمليات فلسطينية، إلا أنه لن يحول، في نهاية المطاف، دون نجاح بعض الفلسطينيين في تنفيذ عمليات مشابهة لعملية تل أبيب في المستقبل. ويرى بن يشاي أن التحدي الأكبر أمام إسرائيل هو في منع عمليات "تقليد للعملية الناجحة"، معتبراً أن الحل يكمن في تكثيف وجود وحضور قوات الأمن في الحيز الإسرائيلي العام، وأن يكون هذا الحضور لقوات الأمن في الأراضي المحتلة بارزاً، كما في المدن والبلدات الإسرائيلية، لأن ذلك كفيل بردع الفلسطينيين عن تنفيذ العمليات ويردع أيضاً عناصر يهودية متطرفة قد تفكر في تنفيذ عمليات انتقامية.

استنزاف عوائل الشهداء ومنفذي العمليات اقتصادياً هو خيار يبدو أن الأجهزة الإسرائيلية بدأت تعتمده بعد عملية تل أبيب، لا سيما في تعاملها مع عائلة مخامرة في يطا، بحسب ما يشير إليه الصحافي فيشمان. إذ يقول إن السياسة الجديدة في التعامل ليس فقط مع الأقارب من الدرجة الأولى، يوحي بطريقة تعامل جديدة، تقوم على حرمانٍ من تصاريح العمل وحرية التنقل، وبالتالي إبقاء أبناء يطا في حصار داخل البلدة، من دون القدرة على إعالة أنفسهم، وهو عقاب يبدو، بحسب فيشمان، أشد وطأة على مجمل أقارب منفذي العمليات من سياسة هدم المنازل، علماً بأن الحكومة الإسرائيلية أقرت أيضاً هدم منازل منفذي عملية تل أبيب.

ويخلص فيشمان إلى القول إنه إذا قام الجيش بضرب أقارب وعائلات منفذي العمليات اقتصادياً، سيفرض بالتالي على كل أبناء العائلة قيوداً مثل منع التنقل والحركة وحرمانهم من رخص وتصاريح العمل، وهو ما قد يشكل خطوة أولى في سياسة عقوبات جديدة يطبقها ليبرمان. ويضيف المحلل الإسرائيلي أن مثل هذه السياسة الجديدة تحمل، في حال تم اعتمادها فعلياً، في طياتها محاولة إسرائيلية لمواصلة الفصل بين مجمل الفلسطينيين في الضفة الغربية، وتحييدهم، وبين منفذي العمليات عبر توسيع رقعة المستهدفين من العقوبات الإسرائيلية لتشمل أقاربهم وأبناء بلداتهم، خوفاً من أن يؤدي استخدام واسع لهذه الوسائل والعقوبات إلى انفجار الوضع العام في الضفة الغربية ككل.

وفي هذا السياق، إن إعلان وقف وإلغاء تصاريح السماح لـ83 ألف فلسطيني من الدخول للقدس وزيارة الأقارب داخل أراضي 48 يأتي أساساً لإرضاء اليمين الإسرائيلي ولاستباق موجة احتجاجات عارمة في صفوفه من جهة، ويشكل ورقة ضغط على السلطة الفلسطينية، من جهة أخرى، لتعزيز نشاط أجهزتها الأمنية في الكشف عن خلايا نائمة واعتقال المطلوبين وتكثيف التنسيق الأمني مع قوات الاحتلال الإسرائيلي.

إلى ذلك، من الواضح أن فرض الطوق الأمني على يطا، يبشر بأن المرحلة المقبلة ستشهد تكثيفاً لنشاط جيش الاحتلال في هذه البلدة التي تصفها الصحف الإسرائيلية بأنها عاصمة مخارط تصنيع بنادق ومسدسات "كارلو غوستاف"، ومعقل لحركة "حماس". وقد يتوسع نطاق هذه العمليات والمداهمات أيضاً ليشمل مدينة الخليل ومحافظتها، التي يتراجع فيها تأثير ودور الأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية، وكذلك بفعل تركيبتها الاجتماعية المتماسكة، وقوة ونفاذ العائلات فيها لدرجة تخشى السلطة الفلسطينية نفسها من تحديها.