تساؤلات عدة أثارها الاعتداء المجهض الذي قام به الشاب المغربي أيوب الخزاني على متن قطار "تاليس" السريع بين أمستردام وباريس مساء الجمعة الماضي.
وفيما كان الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، يكرم أمس الاثنين، أربعة من ركاب القطار، ثلاثة أميركيين وبريطانياً، عبر منحهم أوسمة جوقة الشرف لدورهم في التصدي للخزاني ومنعه من "ارتكاب مجزرة فعلية"، معتبراً أنهم "يمثلون الخير بين البشر في مواجهة الشر المتمثل في الإرهاب"، كان التساؤل الأبرز الذي يردده كثر حول كيفية تمكن الخزاني من صعود القطار في محطة بروكسيل برشاش كلاشنيكوف ومسدس وكمية كبيرة من الذخيرة من دون أن يتعرض لأي عملية تفتيش أو مراقبة، ولا سيما أنه كان مصنفاً كشخص خطير لدى أجهزة الاستخبارات الإسبانية والفرنسية والبلجيكية.
ويحيل هذا السؤال إلى صعوبة تأمين محطات القطارات وأيضاً مسألة الأمن داخل القطارات نفسها، إذ إنّ موظفي القطارات لا يملكون أي صلاحية لتفتيش المسافرين ومراقبة أمتعتهم، ويكتفون بالتحقق من تذاكر المسافرين، على عكس المطارات والموانئ التي تخضع لمراقبة أمنية دقيقة.
وعلى الرغم من أنّ شركة القطارات الفرنسية أعلنت غداة عملية "تاليس" بأنها ستضع رقماً خاصاً رهن إشارة المسافرين للإدلاء بمعلومات عن أشخاص مشتبه في سلوكهم داخل المحطات والقطارات، فإن العديد من المحللين رأوا في هذا الإجراء مجرد وسيلة لطمأنة الرأي العام.
محطات القطارات يتجاوز عددها ثلاثة آلاف محطة في فرنسا، ويعبرها أكثر من ألف وخمسمائة قطار في اليوم الواحد. وليس بمقدور شركة القطارات، ولا السلطات الأمنية، أن تضع آلية للتحقق من هويات المسافرين وتفتيش الأمتعة لأن ذلك سيعرقل بشكل كبير تنقل ملايين المسافرين ولا سيما أثناء العطل والأعياد. كما أنه ليس بمقدور السلطات أن تفعل أكثر مما تقوم به حالياً في إطار عملية "فيجي بيرات" الأمنية، إذ تقوم دوريات مشتركة من عناصر الجيش والشرطة، قوامها حوالي 7 آلاف عنصر، بعمليات المراقبة في المحطات.
اقرأ أيضاً: "تاليس" يعيد مشكلة تطرّف الشباب بالمغرب للواجهة
وتثير عملية "تاليس" بقوة مسألة نظام "شنغن" الذي يكفل حرية التنقل وإلغاء الحدود بين 26 بلدا من بلدان الاتحاد الأوروبي منذ العام 1995. فقد تنقل إياد الخزاني بحرية وسهولة ما بين إسبانيا وفرنسا وبلجيكا وألمانيا عبر القطارات والمطارات من دون أن يتعرض للمراقبة.
لكن مراقبين يسجلون بأنّ بلدان منطقة "شنغن" تتوفر على نظام أمني جماعي يعمم اسم أي شخص مشتبه فيه لكافة الأجهزة الأمنية الأوروبية. وإذا كان الخزاني مسجلاً لدى أجهزة الاستخبارات الإسبانية والفرنسية والبلجيكية، فهو لم يكن أبداً موضوع بحث أو مطلوباً لكونه لم يرتكب أي جرم قبل عملية "تاليس".
ويحيل هذا الأمر بدوره إلى طرح تساؤلات حول مدى فعالية عمل الاستخبارات في مواجهة أشخاص مثل أيوب الخزاني وقبله أحمد سيد غلام، الذي كان ينوي تفجير كنيس في الضاحية الباريسية في نيسان/أبريل الماضي، فضلاً عن ياسين الصالحي الذي قطع رأس مشغله وكان ينوي تفجير مصنع للغاز في ضاحية غرونوبل في يونيو/حزيران الماضي. ويضاف إلى هؤلاء الأخَوان كواشي (شريف وسعيد) اللذان قاما بالاعتداء على مجلة شارلي إيبدو، وأمادي كوليبالي الذي قتل شرطية وخمسة أشخاص في محل لبيع المواد الغذائية في يناير/كانون الثاني الماضي. كما يحضر أيضاً محمد مراح المسؤول عن قتل ثلاثة جنود فرنسيين وخمسة أشخاص (يهود) في تولوز وضواحيها في آذار/مارس 2012. فالقاسم المشترك بين هؤلاء هو كونهم معروفين لدى أجهزة الاستخبارات بعلاقاتهم مع "التنظيمات الجهادية" وبتشبعهم بـ"الفكر الجهادي" العنيف لكنهم ظلوا بريئين قانونياً إلى أن ارتكبوا اعتداءاتهم.
وبالنسبة إلى الخزاني تحديداً، فهو كان مسجلاً لدى الاستخبارات الفرنسية والإسبانية والبلجيكية في خانة "سين". وهي الخانة الأكثر خطورة والمخصصة أساساً للأشخاص المشتبه في احتمال ارتكابهم لاعتداءات تمسّ أمن الدولة. وتتوفر الاستخبارات الفرنسية لوحدها على قائمة بـ 5 آلاف شخص مصنفين في هذه الخانة. وهو ما دفع إلى التساؤل عن سبب عدم التحقيق مع الخزاني على سبيل الاحتياط، ولا سيما بعد أن رصدت الاستخبارات سفره من برلين إلى إسطنبول في يناير/كانون الثاني الماضي. وهي الرحلة التي تكون قد قادته إلى سورية، انطلاقاً من الأراضي التركية كما ذكرت ذلك بعض وسائل الإعلام الفرنسية والإسبانية. وحتى لو لم يكن هناك مبرر قانوني لاعتقاله، فإن الاستغراب تركز أيضاً على أسباب عدم وضعه تحت حراسة لصيقة ومراقبة أمنية في تنقلاته الكثيرة بين إسبانيا وفرنسا وبلجيكا وألمانيا وغداة عملية "تاليس". كما شكك مراقبون في جدوى خانة "سين" إن لم تكن تنفع في تفادي الاعتداءات ومنع حدوثها بكافة الطرق.
أخيراً أبرزت عملية "تاليس" ثغرة كبيرة في التعاون والتنسيق الاستخباراتي الأوروبي. ففي 11 مايو/أيار، غداة رصد رحلة الخزاني من برلين إلى إسطنبول، قامت الأجهزة الفرنسية بإبلاغ نظيرتها الإسبانية بهذه الرحلة المشبوهة، لكن هذه الأخيرة ردت في 21 من الشهر نفسه لتقول للفرنسيين إن الخزاني غادر الأراضي الإسبانية ليقيم في بلجيكا. غير أن الاستخبارات البلجيكية التي صنفت الخزاني في خانة "سين" الخطيرة لم تتوفر على أي عنوان له في بلجيكا ولم تقم بالتحريات اللازمة لرصده.
وهو ما يعكس وجود خلل واضح في مسألة التنسيق الأمني الأوروبي على مستوى مكافحة "الجهاديين"، مبتدئين كانوا أو محترفين. ولا تتوفر أجهزة الاستخبارات في بلدان الاتحاد الأوروبي حتى الآن على نظام موحد يجمع المعلومات المفصلة حول الأشخاص المشتبه باحتمال قيامهم بأعمال إرهابية أو الأشخاص المرتبطين بـ"التنظيمات الجهادية" على شاكلة نظام "بي آن آر" المعمول به في الولايات المتحدة الأميركية وكندا وبريطانيا وأستراليا. ويوفر هذا النظام قائمة بأسماء المسافرين عبر المطارات تحتوي على معلومات شخصية مفصلة حول هوياتهم وعاداتهم في المأكل والمشرب والملبس وحتى وزن حقائبهم.