في حديث سابق مع الإعلامي ممدوح موسى، أشار عمرو دياب إلى كابوس يقلقه دائماً، يتمثّل في أن يأتي يوم يغني من دون أن يلقى جمهوراً أمامه. وهذا ربما ما يدفعه إلى إصدار ألبوم كل عام، وكأن ابتعاده عن جمهوره من دون جديد سيجعله عُرضة للنسيان، بصرف النظر عن اختياراته.
نهاية العام الفائت، أصدر سبع أغانٍ لألبوم سرعان ما تراجع عنه، واستدرك اختياراته بنفس السرعة ليعود بألبوم "سهران" الذي أصدره أخيراً. لعل أهم ما في "سهران" هو عدم حضور تركي آل الشيخ كواحد من مؤلفي أغانيه. على الأقل، أثمر هذا الاستدراك السريع عن تحسين اختياراته مقارنةً بآخر ألبومين، لكنه غير كافٍ لبث الحياة في سوق غنائية تحتضر.
عبر مسيرة تمتد لما يقارب الأربعة عقود، فرض عمرو دياب نفسه منذ أواخر الثمانينيات كنجم أول للأغنية العربية، وتعدى ذلك لشهرة عالمية لم يسبق لمغنٍّ عربي آخر تحقيقها. فمن ناحية، أدار نجوميته بذكاء، وبموهبة تتلاءم مع متطلبات أغنية البوب، لكن الأمر مرتبط بدرجة كبيرة في مثابرته المستمرة، وإن لم يخرج كثير من اختياراته عن تقليد مُتبع تسوده النمطية.
الجلي هو بروز تناقض في شخصيته الغنائية، فهو أكثر تقدمية في كثير من اختياراته الموسيقية، وغالباً رجعي في اختياراته الشعرية، وهذا لم يتغير كثيراً في آخر ألبوماته أيضاً.
ربما تكون أغنية "عم الطبيب" الاستثناء الوحيد في مضمونها الشعري المختلف، وليس في جودتها. اللافت هو الأسلوب اللحني الذي لم يسبق لعمرو دياب، غالباً، تقديمه في ألبوماته السابقة، وهي اللحن الوحيد لدياب نفسه في الألبوم، وتستعير الأغنية أجواء شرقية قديمة تعيدنا إلى مناخات أغاني سيد درويش، مثل "الحلوة دي"، وتلك الأزمنة الفاتنة. غير أن اللحن من مقام الحجاز، ذات خاصية تتسم بها من دون شبهة الاقتباس. اللافت استخدام كورال على طريقة سيد درويش، مع أسلوب موسيقي يجاري التخت الشرقي البسيط، من دون الوقوع في إغراء البذخ العصري.
يدخل الغناء الشرقي بجملة لحنية راقصة وخفيفة على مقام الكرد، مع تبدلات إيقاعية، بدءاً بالتكنو، ثم إيقاع لاتيني من أنواع الرومبا، ويعاود بإيقاع المقسوم، وهكذا. شهدت الأغنية ديكورات صوتية مجسمة إيقاعياً وموسيقياً، عدا أن استخدام التكنو أصبح كليشيهاً في أغاني البوب. وأضحى إلى جانب المقسوم والغيتار الإسباني ثالوثاً أساسياً في ألبومات صاحب "قمرين" خلال آخر عقدين.
هل أراد عمرو دياب القول إنه امتداد لهذا التاريخ التطريبي بدءاً من سيد درويش وحتى بليغ حمدي؟ ومع أن الأول مثّل مرحلة انبعاث، كان الأخير تعبيراً عن الانحسار، بصرف النظر عن نجاحه الكاسح. وتلك الجزئية انعكست لتبدو مشرقة في "عم الطبيب" وداكنة في "روح"، بما فيها من افتعال تطريبي.
في أغنية من فئة المقسوم، سنجده يتحدث عن وجوده "سهران مع ناس حلوة"، بذلك التعبير المبتذل واليومي، وتدخل فتاة تبهرهم بجمالها. الأغنية التي لحنها عزيز شافعي، تكاد تكون نسخة أعيد ترميمها لأغنية "قدام مرايتها"، وهي من ألحان شافعي أيضاً، وسبق أن أصدرها ضمن الأغاني السنغل السابقة، ولنجاحها ضمنها ألبومه، واختار أغنية قريبة منها، باعتبار أنها مطلوبة لدى الجمهور. جاءت "سهران" بصيغة لحن شعبي مبسط على مقام الكرد، كما أن جملتها الموسيقية الراقصة على الأكورديون الشرقي وإيقاع المقسوم تعيدنا إلى التسعينيات.
توظيف الفلامنكو والغيتار الإسباني جزء من أشكال غناها عمرو دياب وساهمت في صعوده، وهو ما يستعيده لحن عمرو مصطفى على مقام الكرد في أغنية "جامدة بس"، وتتسم بأسلوبه الحيوي الذي فقد مع الوقت موضته. المختلف هذه المرة استخدام مدخل لأصوات الفيولين بطراز ناعم، ويتبين خط الأورغانوم من طبقة منخفضة، بنظام توافقي بسيط، تعود متوهجة وأكثر إيقاعية آخر الأغنية.
يتمتع عمرو دياب بأناقة في تصميم مظهره، بمعنى أنه يحرص على إيجاد نسق واضح لمسيرته وشكله الموسيقي. وفي أغنية "يا روقانك" هناك محاولة لتواصل حوض المتوسط بالبحر الكاريبي، فالأغنية على إيقاع الرومبا، لكنها في لحن المذهب تأتي بطابع مصري، وربما مكرّر سبق أن سمعنا ثيمته في إحدى أغانيه، ثم تنتقل عبر تصعيد إيقاعي إلى الأغصان باندفاع ديناميكي على طريقة الرومبا، يتخذ البناء شكلاً لإنتاج أغنية رومبا، وتمطر النحاسيات فاصلاً قصيراً مشرقاً وراقصاً، ليعود إلى لحن المذهب. تحتشد الأغنية بالاستعارات الموسيقية الراقصة القادمة من البحر الكاريبي، الأكورديون الممتزج بالنحاسيات، ثم في النهاية مع صخب النحاسيات بمصاحبة مختلفة، وكأنها أشكال كرنفالية.
المخيب هي تلك الصيغة الشعرية المبتذلة، فهو يوجه حديثه لمحبوبة سيهجرها: "ما تفوق يا عم أنا همشي أقول في الشارع هيه، أنا حعمل مهرجان وخلاص حنسى اللي بينا مهما كان". لم يكن لمقام النهاوند بشخصيته الشجية أي إمكانية لترميم هذا المستوى بأي شكل من الأشكال.