عمامة الترابي وخودة البشير

09 مارس 2016

البشير والترابي بعد تحالف ثم شقاق (Getty)

+ الخط -
خسر الفكر الإسلامي في السودان عالماً مجدداً وفقيهاً متضلعاً، وربحت السياسة زعيماً مضطرباً وسياسياً مناوراً ومناضلاً قاد انقلاباً عسكرياً، كان واحداً من ضحاياه.. هذه فقرة واحدة من دفتر حسن الترابي، المليء بالأفكار والمبادرات والمناورات والأخطاء والمراجعات، دفتر ظل مفتوحاً أكثر من نصف قرن للفتى الأسمر الذي حلق في عوالم الدين والفقه والقانون والسياسة، حتى رحل الأسبوع الماضي عن دنيانا.
سيرة الترابي فصل مهم في تاريخ الحركة الإسلامية المعاصرة التي أطلق حسن البنا في ستينيات القرن الماضي شرارتها، ومازالت تبحث عن ذاتها، وتكرّر الأخطاء نفسها التي لحقت بالقوميين واليساريين والناصريين والبعثيين...
نظّر الترابي لإسلام معتدل، ولفقه عصري، ولأصول دينٍ جديدة. كان ينظر بعين الأولى في كتب الثرات الاسلامي التي تربى عليها في كنف والده، بينما كانت العين الثانية تتطلع إلى منجزات العصر الذي يعيش فيه، وقد رآه رأي العين في جامعتي أوكسفورد في لندن والسوربون في باريس، لكن الفتى الأسمر لم يرض أن يكون مجرد مثقفٍ، أو باحثٍ في الدين أو صاحب مذهبٍ أو طريقةٍ في بلادٍ تتنفس التديّن الصوفي العميق. كان يطمح إلى أن يصير مثل الخميني، زعيماً سياسياً ودينياً في العالمين العربي والإسلامي. أسس أول حزب للإخوان المسلمين في السودان سنة 1964 (جبهة الميثاق الإسلامي)، ووضعها في مواجة الحزبين الكبيريْن، الأمة والشيوعي. صارع جعفر النميري، ثم رجع وتصالح معه، وكان خلف التجربة السيئة لتطبيق الشريعة وزيراً للعدل في السودان، من منصبٍ إلى آخر، ومن زنزانةٍ إلى أخرى، ومن تنظيمٍ إلى تنظيم. تقلب الترابي مع أحوال الطقس السياسي في بلادٍ مازالت تعاني من التفكّك والفقر والاستبداد، إلى أن طبخ، في سرّيةٍ كاملة، انقلاباً عسكرياً على ديمقراطية الصادق المهدي المريضة سنة 1988، لكن أحوال السودان ازدادت سوءاً مع الجنرال عمر البشير الذي وضع يده في يد داعية الدين، حسن الترابي، ثم رجع العسكري، وتمرّد على معلمه المدني، رافضا أن يكون واجهةً عسكريةً لحكم الفقيه، لم يعمّر التعايش بين الخوذة والعمامة سوى عشر سنوات، ثم تحول الزواج بين الفقيه والجنرال إلى طلاقٍ بائنٍ. تحول الترابي بعده إلى معارضٍ شرسٍ للنظام الذي أقامه، داعياً السودانيين إلى إسقاطه، فيما تحول البشير إلى مطارد من المحكمة الجنائية الدولية، باعتباره مسؤولاً عن جرائم ضد الإنسانية في إقليم دارفور.
حتى الربيع العربي الذي ضرب في معظم الدول العربية، قبل خمس سنوات، لم يستطع أن يحرّك مياه السودان الراكدة. وصل الوضع إلى مرحلةٍ لم يعد العلاج، ولا الإصلاح، يشتغل في جسم مات ولم يدفن بعد. رحل الترابي، ولعل أبناءه يستخلصون الدرس والعبرة من حياة زعيمهم الحافلة بالتناقضات، ولعل أولى الخلاصات ثلاث، أولاها أن الانقلاب على الديمقراطية، مهما كانت ناقصةً، أو مريضةً، لا يلد إلا كافراً بها. وثانيتها أن الإنسان يجب أن يختار بين الدعوة أو السياسة بين عمامة الفقيه أو قبعة السياسي، فلا تجتمع الزعامة الروحية والسياسية في قلب رجل واحد في أيامنا هذه، وإذا اجتمعت، فإن الفشل، في الغالب، يكون حليفها الأكبر. أما ثالث الدروس المستخلصة من سيرة الترابي فهو أن لكل قائد سياسي عمرا افتراضيا، عمر لا يمتد به إلى القبر، بل يقف عند حدودٍ معينةٍ، لا يتجاوزها الإنسان في حياته، لكي لا يصير ثقيلاً على قلوب الناس، وعبئاً على مصائرهم، يقول اليوم كلاماً ينكثه غداً، فيترك الناس في حيرة من أمرهم. رحم الله حسن الترابي...
A0A366A1-882C-4079-9BED-8224F52CAE91
توفيق بوعشرين

كاتب وصحفي مغربي، رئيس تحرير جريدة "أخبار اليوم" المغربية.