ليس من السهل بين سيل التشابهات، أن تعثر على صوت وهوية وملامح منفتحة على نهر الحياة، ولكنها في الآخر تشبه ذاتها.
فضلاً عن سمعته الرفيعة بين أميز عازفي الكمان ومدرسيها، فإن حساسيته الفنية وثقافته ترجمتا إلى تأليف أعمال موسيقية نالت التقدير في ألمانيا -حيث يقيم- وفي أوروبا وأميركا.
تخرج موره لي من المعهد العالي للموسيقى والفنون المسرحية في سورية عام 2004، وأنهى عام 2016 في ألمانيا دراسة الماجستير بالعزف المنفرد ويقيم حالياً في برلين، مؤلفاً وعازفاً ومدرّساً لآلة الكمان.
"العربي الجديد" أجرت معه هذا الحوار:
هل استقر موره لي في أن يكون مؤلفاً موسيقياً أكثر من عازف كمان؟
أنا لا أرى عتبة حقيقية تفصل بين الاثنين. إن الموسيقي العازف، المتفرغ كلّياً للأداء الآلي أو الصوتي، والذي يهب جلّ حياته الأكاديمية والمهنية في سبيل دراسة وتقديم موسيقى ألّفها آخرون، هو ظاهرة حديثة نسبياً. اقترنت بولادة الصناعة الموسيقية إبان القرن التاسع عشر، أعني هنا تحديداً، طباعة الأسطوانات المسجلة. فيما مضى كان معظم الموسيقيين، يمارسون كلاً من العزف والكتابة الموسيقية.
الآن، نحن نشهد بوادر مرحلة جديدة تنذر بكساد الصناعة الموسيقية بشكلها التقليدي، نتيجةً لظهور الإنترنت ناشراً بديلاً وعصرياً للإنتاج السمعي والبصري، عبر وسائط البث والتحميل المباشر. أتى كل ذلك سريعاً، من دون أن تتشكٌل بعد، الأطر والنواظم التي سوف تدير العلاقة بين المؤدي والمتلقّي في مستهل المرحلة الجديدة. وعليه، باتت مهنة العازف المؤدي تعيش أزمة عبور لا يمكن تجاوزها، برأيي، سوى بتوسيع المجال الإبداعي ليشمل الأداء والتأليف معاً. لا أتحدث هنا عن الموسيقى بوصفها مهنةً وحسب، ولا عن الأزمة بشقّها المادي والمعيشي فقط، وإنما ما يهمّني على الأخص البقاء الفنّي، أي، القدرة على الوجود والتأثير، من خلال الموسيقى بوصفها وسيلةً للتعبير.
لهذا توجهت بأعمالك إلى يوتيوب؟
لأنها قناة المستقبل، أو بالأحرى، إحدى قنواته. إننا نعيش ثورة بشرية صنفّها البعض على أنها الرابعة على مسار التاريخ. وتلك الثورة، كما أيّة ثورة، تحدث واقعاً جديداً لم تتشكل أدواته بعد، ولا أطره المادية والنظرية، ولا حتى وسائل إنتاجه.
إلا أن ذلك بطبيعة الحال يجعل من أدوات المراحل السابقة فاقدة للصلاحية، أو الفعالية بأفضل الأحوال. لا أعني بهذا، أن وسائط النشر تلك باتت مكتملة، وإنما هي مجرد بدايات تبحث لها بدورها، عن أسس ونواظم. عوضاً عن أن النشر على اليوتيوب، أو غيره، ما هو سوى آخر حلقات التي السلسلة الإنتاجية المثيرة، والتي أتاحتها لي الثورة التكنولوجية. فأنا من يسجل أعمالي، يحررها، ينتجها، يصوّرها وفي آخر المطاف، ينشرها، بكلفة لا تتجاوز ثمن قرص مدمج واحد. والأهم من ذلك، أن لي السيادة الفنية المطلقة على مسار الإنتاج. إنه نمط من الإنتاج الفني الناعم، مقابل ما كان سائداً من إنتاج فني صلب. هذا بدوره لا يلغي حقيقة أن لوسائط النشر الحديثة أبواباً موصدة عليها حرّاسها. ومن شأن ذلك ألا يضمن الانتشار السريع لكل من ينشر من على منصّاتها. إلا إن سعة الانتشار وسرعته، برأيي، ليست من شأن الفنان الجاد والحقيقي، والذي يرى إنتاجه الفنّي كوسيلة لمحاولة فهم العالم، وما الشهرة بالنسبة إليه، سوى إضافةً عابرة وكمالية على غاية الفن الأساسية.
أنستطيع القول إن "شتات" هي من افتتحت طريق التأليف؟
صحيح، "شتات" كانت البرزخ، نقطة زوال تلك الحدود بين أن تتناول كمانك لتباشر بعزف لحنٍ تحفظه، وبين أن تلد كمانك لحناً جديداً. ما زلت أسأل نفسي في كل مرة أقدم فيها تلك المقطوعة: من أين أتاني ذلك اللحن، ومتى؟ كيف نما وتشكّل بداخلي؟ وكيف يصدر عن كماني ومن بين أصابع يدي، ليركب الهواء مسافراً إلى قلب المستمع وروحه. لم يكن اعتباطاً، باعتقادي، أن اخترت “شتات" اسماً لمقطوعتي، ليس بوصف الاسم إشارةً إلى اغترابي المكاني وحسب، وإنما الفني أيضاً. اغتراب يكتسب قيمته من كونه مسعىً لفهم عالم من حولي يتّصف بسيولة شديدة. ومحاولة منّي لتحديد مكاني في جغرافيا تعيد تشكيل نفسها باستمرار، وبسرعة جنونية.
هل ارتبط التأليف باندفاع السوري موره لي ليقول شيئاً سورياً أمام الكارثة التي وقعت؟
بطبيعة الحال، فرياح التغيير التي عصفت بالمنطقة العربية، حتى انقلبت إعصاراً مدمراً، في لحظة تاريخية شديدة التركيز، جعلتني أعيد اكتشاف ذاتي. في البدء، وكمعظم الشبان العرب الطامحين إلى مجتمعات حرة، عادلة وديمقراطية، آثرت على البقاء في دمشق في خضم الانتفاضة الشعبية، ولم تكن لدي أي نية لترك البلد. لم أنخرط في الحراك السلمي، وإنما أردت فقط أن أشهد الحدث وأتصل به. حين أخذ الحدث ينزف دماً، وبتّ بغتة لاجئاً في مدينتي، عندها عزمت على الرحيل، آملاً في أن تعينني المسافة على فهم هادئ ومتعقل لما يجري. لم أكن أتخيل في وقتها، أن ما كان يُراد له أن يكون ابتعاداً لبضعة أشهر، انتهى بغربة لسنين طويلة، وبناء حياة جديدة في وطن جديد. كان من شأن كل ذلك في الأخير، أن أفضى فيَّ إلى ولادة جديدة، تمخّضت عنها شخصية فنية تبحث لها عن صوت في فضاء صارت تعيه حراً، وفضاء عربي مجاور، بات يعي بدوره أن الحرية ممكنة. من هنا، أتى التأليف حاجةً ملحّةً لأن يكون لي قولي الخاص، وإن ظلّ ما أقوله عبر الموسيقى يتجاوز المعنى إلى المجاز، والكلام المباشر إلى البوح والإشارة.
حدثني عن الينابيع الموسيقية السورية القديمة والحديثة التي تثير اهتمامك.
ما يميّز سورية في نظري هو أنها جغرافياً، كما حضارياً، كانت دوماً وما تزال أرض عبور والتقاء. هذا ما يجعل الهوية السورية في حالة تشكّل دائم. سواء في الفن أو في السياسة، أو في الأدب. جدّي الموسيقي الراحل مصطفى هلال، كان أبرز من جمع التراث الموسيقي الشعبي، الدمشقي خصوصاً والسوري عموماً في منتصف القرن الماضي. وقد بذل في سبيل ذلك جهدا مضنياً وطوعياً، بلغ حداً جعل منه رائداً محلياً لما بات يعرف اليوم بقسم "الميوزيكولوجيا" في الجامعات الغربية الحديثة. إن تأملت ذلك التراث بأذن موسيقية، تسمع أن ما يميّزه هو بالدرجة الأولى، تنوعه وعدم انصياعه لشخصية ثابتة ومقولبة. فكل حضارة مجاورة لتلك الأرض، أو مرّت بها، منذ المجتمعات الزراعية الأولى، كل حقبة بُنيت فيها كنيسة، شرقية كانت أم غربية كل مسجد عُمّر وكل عتبة أو تكّية، سواء في القامشلي، في دمشق أم في حلب، كلٌّ أسهم بدور في تنوع التراث الموسيقي السوري وتفرّده. إن هذا سمات هذا التراث ومرونته وانفتاحه على كل المشارب، هو برأيي أهم ملامح شخصيته.
قرأت لك وصفاً لموسيقيين "جهلة"، متى يكون الموسيقي جاهلًا؟
لا أذكر أنني استخدمت وصفاً كهذا، أو لعلّي قد فُهمت أو أوّلت خطأً. من جهة أستطيع القول، بأن على كل فنان أن يأخذ على عاتقه توسيع معارفه قدر استطاعته، سواء نظرية كانت أم عملية. يجب عليه الخروج من المرسم، المسرح أو حجرة التدريب، إلى العالم الرحب. فلكي تصل إلى قلب الإنسان وعقله، عليك أن تتعرف إليه، أن تبدأ بمحاولة معرفة نفسك أولاً، ثم أولئك الذين من حولك. عليك أن تحاول فهم التاريخ والجغرافيا وحركة المجتمعات. كما يجب عليك، من وجهة نظري، أن تتصل بقضايا الناس وأن تنمّي بداخلك وعياً سياسيّاً، من غير أن يكون موجّهاً أو مُؤدلجاً. ليس بالضرورة أن يسهم كل ذلك، في نجاح مهني أو فنّي، أو زيادة البراعة في الأداء. إلا أنه سيزيد بكل تأكيد، من حساسية الفنان، ويضيف إلى نتاجه رصيداً وافراً من الصدقية.
من جهة أخرى، أرى في القليل من الجهل سمة لا تخلو من إيجابية. الجهل هو أول الطريق إلى الكشف، وعلى الفنان أن يدرك أولاً، ومن ثم أن يحتضن حدود قدراته التقنية والمعرفية، لكونها تسهم بشكل غير مباشر، في تفرّد شخصيته الفنيّة، بقدر ما تُبقي على أبواب التعلم والتطوّر أمامه مشرعة. كتب الروائي التركي أورهان باموك في روايته "اسمي أحمر "العيب هو الأسلوب". أقول دوماً لتلامذتي وأصدقائي، إن ما يميّز شخصيتك الفنيّة ليس فقط ما تستطيعه وإنما أحياناً، ما لا تستطيعه.
فقدان دمشق لدمشقي يحفظها شبراً شبراً، هل يجعل الحنين موضوعاً مركزياً في إنتاجك؟
دمشق التي رحلْت عنها لم تعد موجودة. وعليه فإن الحنين يفقد بدوره مبرر وجوده. بالطبع، يظل الشوق إلى الأهل والأصدقاء وأمل اللقاء بهم من جديد قائماً، كما هو الشوق إلى السير ببعض الزوايا والأمكنة. أما "الشام" فيّ فقد آلت إلى ذكريات. ما زلت آملاً بأن دمشق جديدة سوف تولد يوماً من رحم المأساة، وأن صباياها وشبابها لقادرون وعازمون على بناء المجتمع قبل المنزل والمعمل، والبشر قبل الرمل والحجر. ولسوف أسعد شخصياً إن تسنّى لي يوماً، المشاركة في البناء. إلا أنه وفي سبيل ذلك، لا بد أن تنتهي الحرب الرهيبة تلك بحل سياسي شامل، لا يقوم على انتصار سوري على سوري بالغلبة أو بالقوة، وإنما على رغبة صادقة ومشتركة بين جميع السوريين، في تأسيس مجتمع حر، عادلٌ وديمقراطي. يقود إلى تنمية حقيقية، عادلة تشمل الجميع ولا تستثني أحداً.
هل يتعثر الموسيقي في جملة موسيقية، لأن رائحة أو صوت بائع جوال لا يمر في برلين؟
إن مخيّلة المبدع، سواء كان فناناً، موسيقياً أو شاعراً، وفضاءه الخاص فسيحان يتسعان لجميع المشاهد والصور. يعيد تشكيلها بقدر ما يُبدع صوراً ومشاهد جديدة. كما أنه يحضّر باستمرار، كل أصناف الروائح والعطور، منها ما كان قد ذاقه يوماً أو ما خبرته حواسه، ومنها تلك التي لم تذق أو تُختبر بعد. تلك المخيّلة الحيّة وذلك الفضاء الحميمي الخاص، يظل في تجدد مستمر ودائم، حيثما رحل وأينما حل، كالحال السرمدي القلق لنغمة القرار في مقام الهزام.