على هامش هجوم نيس

18 يوليو 2016
+ الخط -
لعل أسوأ ما في هجوم نيس، بعد بشاعة الجريمة نفسها، هذا الاهتمام الإعلامي به. تحدث تفجيراتٌ وأعمالٌ إجرامية عديدة في بلداننا العربية، ولا تلقى هذا الاهتمام، فالعراق مثلاً يعاني من تفجيراتٍ متواصلة تحصد العشرات منذ عام 2003، تُواجَه ببرود تام من العرب قبل غيرهم، فيما ينتفض العالم كله عند أي هجوم في الدول الغربية، وتبدأ حفلات التضامن بوضع أعلام هذه الدول على الأبراج العالية في الوطن العربي، أو على صفحات مستخدمي "فيسبوك" و "تويتر" العرب، بما يثبت أننا أسرى فكرة التفوق الغربية التي تجعل حياة المواطن في الغرب أهم، والهجوم عليه مدعاة للاستنفار العالمي، والنقاش الموسّع حول الحدث وأسبابه وإرهاصاته.
كما في كل هجومٍ أو تفجيرٍ في الغرب، ينقسم النقاش في الوطن العربي، إلى مجموعاتٍ تحلل كلٌّ منها الحدث من زاويتها، وتردّد سرديتها حول منابع الإرهاب، وتفسيرها نشوء الظاهرة، انطلاقاً من أنها ظاهرة عنفية، تحمل شعاراتٍ إسلامية، وتضرب في الدول الغربية، ما يجعل النقاش بين العرب والمسلمين حولها ضرورياً، والنقاش حولها بالفعل ضروري، لكنه لا يصبح ملحاً إلا في حالة استهداف الغرب، فيما تعاني دولٌ عربية من أزماتٍ وحروبٍ أهلية، تجعل مجتمعاتها فريسةً لهذه التنظيمات وأعمالها الإجرامية، ولا يحرّك هذا في النقاش العربي حول الظاهرة كما يفعل "عبء" الهجوم على الغرب. من هنا، ينطلق فريقٌ أساسيٌّ في النقاش على المستوى العربي، يدّعي التنوير، ليؤكد شعوره بالعار وحجم المسؤولية التي لابد أن نستشعرها جميعاً، بسبب ما يفعله "أبناء جلدتنا" في الغرب.

عند هؤلاء المتنورين، الليبراليين في الغالب، لا بد أن يُحشر الفرد مع جماعته الدينية، ليعطي موقفاً سياسياً، إذ إن من يصفون أنفسهم علمانيين وليبراليين لا يمانعون من ضرب حرية الفرد في الاختيار، وإلزامه بجماعته الدينية، وإعطاء مواقف سياسية، بناءً على الانتماء الديني، من أجل إرضاء الغرب الذي يعتدي عليه أبناء جماعتنا، ولابد من الاعتذار له. أكثر من ذلك، يعتقد بعض "مفكري" هذا الفريق أن العرب والمسلمين يريدون نشر التخلف، والمساهمة في ضرب تقدّم الغرب لشدة تخلفهم، وطبعاً لا مكان عندهم للتفكير في النهج الاستعماري الغربي، ومساهمته في تخلف العالم الثالث، وما قام به من جرائم ونهب، يستمر اليوم بطرقٍ مختلفة، لكن أصحاب عقد النقص، وما يصل إلى كراهية الذات، لا يمكنهم أن يروا ذنباً إلا على العرب.
يكرّر أهل هذا الفريق الحديث عن تحسين صورة الإسلام أمام الغرب، وإظهار "الصورة الحقيقية" للإسلام، وكأن للإسلام صورةً واحدة، لا مجموعة صور وتأويلات، كما في كل دين. يستبطن طرح كثيرين من هؤلاء إيماناً بصراع الحضارات، وفق مفهوم هنتنغتون، كما أن طرحهم يدين العنف بالمطلق، بما يشمل العنف الموجّه ضد الاحتلال لتحرير الأرض وتقرير المصير، لأن إزعاج القوى المحتلة الغربية (أو المدعومة من الغرب) ممنوع في قاموسهم.
تتجسّد خلاصة تحليل هذا الفريق في اختزال المشكلة في الثقافة، والقول إن تغييرها واجبٌ لتجفيف منابع الإرهاب، وعلى الرغم من أن للأيديولوجيا دوراً مهماً في فهم هذه الظاهرة، وهي أيديولوجيا تتصل بجزءٍ من التراث الديني، إلا أن تجاهل ظروف الواقع، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وخصوصاً دور القوى الغربية الاستعمارية، إنْ بتحفيز الظاهرة من خلال التدخلات العسكرية والسياسية في بلداننا، أو استخدام مجموعات الجهاديين في حروبٍ الوكالة، لا يجعل هذا التفسير قادراً على تقديم صورة متكاملة.
فريقٌ آخر، يعيد أيضاً سرديته نفسها في مثل هذه الأحداث، فيلقي باللائمة على "التغريب" أو تهميش الإسلاميين، بما يؤدي إلى اتجاه بعضهم إلى العنف، ويبذل قصارى جهده لتبرئة ساحة الإسلام السياسي من إنتاج الظاهرة، على الرغم من أنها ابنة شرعية لهذا التيار، ويشرع في إعطاء تفسيرات أشبه بالتبرير، وبعضهم من أنصار "ديمقراطية الناتو"، يؤكد أن الظاهرة نتاج تقصير الغرب في القيام "بواجبه" في محاربة الاستبداد عندنا، فيما التدخلات الخارجية أسهمت في تفكيك المجتمعات، وتمدّد هذه الظواهر.
يعتمد هذا الفريق تفسيراً سياسياً للظاهرة، وعلى الرغم من أن السياسة محورية بالفعل في فهمها، إلا أن التفسير يتوجّه للعوامل السياسية التي تتضاد مع رؤية هذا الفريق. وفي الغالب، تسهل المحاججة بأنها ليست أسباباً أصيلةً لنشوء ظاهرة الإرهاب، كما أن بعض هذا الفريق، في محاولته، تبرئة أيديولوجيا الإسلام السياسي، يشير إلى أن كثيرين من منفذي الهجمات ليسوا متدينين، أي أنهم مسلمون غير ممارسين، لكن المسألة أبعد من ذلك، فهي تتصل بالهوية الإسلامية التي يشعر أهلها، في أوروبا بالذات، أنهم تحت ضغط صراع الهويات. لذلك، تجنيد المنتمين لداعش وأمثاله يتم، في الغالب، عبر استنفار الهوية الدينية، وهو أمر دأبت عليه تيارات الإسلام السياسي التي تُحشِّد على الهوية لتصنع حضورها.
الجدل يعيد نفسه عادةً عندنا، مع كل حادثةٍ من هذا النوع، لكن الفرنسيين أنفسهم يعيدون الحديث نفسه غالباً، وقليلاً ما تجد من يتحدّث عن آثار أزمة الهوية في فرنسا على تزايد مثل هذه الأعمال هناك بالذات، فالميل إلى التفسيرات السهلة، وتوظيف هذه الأعمال في الخطاب لخدمة رؤى مسبقة أو أجنداتٍ سياسية محدّدة، لا يقتصر علينا في الوطن العربي.

9BB38423-91E7-4D4C-B7CA-3FB5C668E3C7
بدر الإبراهيم

كاتب سعودي. صدر له كتاب "حديث الممانعة والحرية"، و"الحراك الشيعي في السعودية .. تسييس المذهب ومذهبة السياسة".