في زمن غير بعيد، تصدّت باقة من المثقّفين الشيوعيين الشبان للطغيان، وذاقوا مرارات السجون. غني عن البيان القول إنهم كانوا علمانيين. لذلك كان من المتوقع، بعد أن لاحت بشائر الانتفاضة الشعبية، أن يتقدّموا مظاهرات المطالبة بدولة العدالة والحرية، غير أن بعضهم تريّث، كانت لديهم حساباتهم، فلم يُقدموا على هذا الخطأ الإستراتيجي قبل التأكد من حتمية سقوط النظام، لئلا يتخذوا موقفاً يندمون عليه.
ولقد كان لشاعر علماني حداثي، جرأة عدم التردد في إدانة الاحتجاجات السلمية منذ أيامها الأولى، السبب الذي أورده وفاقت شهرته شهرة صاحبه؛ خروج المظاهرات من المساجد، كانت رمزيتها المقدسة المانع لتأييده لها. بينما غضّ النظر عن قوات النظام من العسكر والمخبرين والشبيحة لمجرد أنهم خرجوا من الأقبية غير المقدسة للمخابرات ومؤسسات الدولة وقاعات الحزب يطاردون الشبان والشابات في الشوارع والحارات، يعتقلونهم ويسوقونهم إلى السجن، أو إلى الموت. في حين كان القناصة يصطادون المتظاهرين بطلقة في الرأس من دون تمييز بين الرجال والنساء والأطفال. لم يتراجع الشاعر، أو يساوم؛ المساجد قضية مبدأ.
بعد التريّث طويلاً، لم يهبّ المناضلون المخضرمون بالعلمانية والشيوعية معاً، ويحرّضوا الجماهير على الخروج من الحقول والمصانع، أو من تحت الأرض، حتى بعدما عمّت المظاهرات السلمية البلاد من أدناها الى أقصاها. حسب الأدبيات الماركسية اللينينية، لم تحقّق الثورة السورية الشروط الأممية. فانحازوا إلى النظام ولو كان استبدادياً. السبب الآخر، إذا كان هناك نضال فهم الأجدر به، والأقدر عليه. أما أن يلتحقوا بالعوام، بلا نظريات وتنظير، فنزول بالثورة الى درك الفوضى.
سيمنحهم النظام حجّة أقوى تبرّر تنصّلهم من الثورة، فالإسلاميون وراءها، لا مظالم الناس وعذاباتهم طوال أربعين عاماً، ولا النهب اليومي لقوت الشعب. فالمؤامرة الكونية ولو كانت دولية، غير مشكوك بمظاهرها المتأسلمة، بشهادة أجهزة المخابرات. وخريطة الطريق، الانقضاض عليها بموجب علمانية النظام المشهود بتشددها بالقتل والذبح والتعذيب حتى الموت والتمثيل بالجثث، العلمانية لا تمزح، وإذا نُقحت فنحو المزيد من التدمير والتجويع والتركيع، للأجهزة الأمنية الحق بحماية الشعب ولو كان فيه القضاء عليه.
لم يصعب على النظام استدراك ما ينقصه من المؤيدين المغرّر بهم، والمحلّلين السياسيين المستأجرين من دول شقيقة، والمحتالين مقتنصي الفرص، وفنانين يبحثون عن أدوار استبدادية، والخانعين المساكين، أضيف إليهم علمانيون آخر طبعة، كانت قناعاتهم؛ لن تقوم للعلمانية قائمة، إن لم يحفظها النظام من التواطؤ مع الاحتجاجات الشعبية.
في هذا الذي يجري، دلالة إلى ما كان سيجري، لو انتصرت الشيوعية في بلادنا، ستكون الدكتاتورية نصيبنا أيضاً، على نحو لا يقلّ شراسة عما حقّقه في القرن الماضي نظراؤهم الستالينيون في روسيا، على منوالهم سيشيّد تلامذتهم دكتاتورية من دون بروليتاريا.
تُلاقي العلمانية تضليلاً كارثياً في بلدان الشموليات الرثّة، بلغت من الزيف أن علمانيين جدّدوا علمانيتهم وأصبحوا تابعين أوفياء للطغيان.