وقد أكدت الولايات المتحدة أنها ستحتفظ، مع ذلك، بصفة المراقب في المنظمة، من أجل "المساهمة بوجهات النظر وبالخبرات الأميركية حول بعض القضايا المهمة التي تهتم بها المنظمة، كحماية التراث العالمي والدفاع عن حرية الصحافة والتشجيع على التعاون العلمي والتعليمي".
والغريب أن التبرير الأميركي، هذه المرة، كان إعلانا للتضامن مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، إذ اعتبرت أن المنظمة الدولية "معاديةٌ لإسرائيل".
ما من شك في أن حصول فلسطين على عضوية "يونسكو"، إضافة إلى القرارات التي صوّتت عليها المنظمة بخصوص الأماكن المقدسة في مدينة القدس وإدانة الحفريات التي تقوم به دائرة الآثار الإسرائيلية، والتي أثارت حفيظة إسرائيل، قد أغضبت الأميركيين. وحتى لا يكون التبرير، فقط، من زاوية الدفاع عن الحليف الإسرائيلي الذي بادَر، هو الآخر، إلى الانسحاب، تذرعت الولايات المتحدة، أيضا، في قرارها بـ"بقلقها من متأخرات الدفع المتزايدة في (يونسكو)"، وأيضا بـ"الحاجة إلى إصلاحات جوهرية في الوكالة".
وجاء تأسيس منظمة "يونسكو"، بعد الحرب العالمية الثانية، وآثارها المدمرة، وكانت الولايات المتحدة الأميركية من الدول الأولى التي أسست هذه المنظمة الدولية.
ولكن علاقات الولايات المتحدة الأميركية مع المنظمات الدولية لا تخلو من بعض التوتر، خصوصا حين تحاول الهيمنة أو فرض مواقفها. وقد مارست هذه السياسية ولا تزال مع منظمة الأمم المتحدة من خلال الضغوط، التي تقترب من الابتزاز، أحيانا.
ولم تفلت منظمة "يونسكو" من هذا "المزاج" الأميركي، المفاجئ، أحيانا. فحاولت فرض ضغوط على المنظمة، ولما لم تفلح في فرض شروطها وإسماع صوتها، قررت الانسحاب منها قبل أن تعود مرة أخرى، وسط ترحيب من قبل الدول الأعضاء.
ويعود أول انسحاب للولايات المتحدة الأميركية من منظمة "يونسكو"، إلى سنة 1984، قبل أن تعود إليها بعد غياب 19 سنة. وتذرعت بأسباب عديدة، منها عدم اتفاقها حول السياسة التي تُدار بها المنظمة، ولم تتأخر بريطانيا وسنغافورة عن الانسحاب، أيضا، سنة 1985، مما تسبب في أزمة حادة في ميزانيتها.
ففي سنة 1984، قررت إدارة الرئيس الأميركي، رونالد ريغان، الانسحاب من المنظمة الدولية، وهو ما تسبب في حرمان اليونسكو من ربع الميزانية، متهما إياها بإدارة سيئة وبأنها "تُعير بناها التحتية لحملات معادية للإمبريالية"، الموجهة ضد الولايات المتحدة الأميركية.
وفي 12 سبتمبر/ أيلول 2002، وبشكل مفاجئ، أعلن الرئيس الأميركي جورج بوش، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، عن عودة قريبة إلى "يونسكو"، وسط ذهول الحاضرين.
ولكن متتبعي السياسة الأميركية لم يفاجئهم القرار الأميركي. فقد كانت الولايات المتحدة الأميركية تتأهب للحرب ضد العراق، وبالتالي فإن الوعود بالعودة للمنظمة يمكن فهمها باعتبارها إغواء أميركيّا للدول المترددة في الحرب على العراق، خاصة من دول العالم الثالث وأوروبا.
وهكذا كانت العودة الأميركية الرسمية بتاريخ الأول من أكتوبر/تشرين الأول 2003.
وفي نوفمبر/ تشرين الثاني من سنة 1987 غادر السنغالي أحمد مختار أمبو المنظمة، وحل محله الإسباني فديريكو مايور، الذي تم تقديمه باعتباره مرشحا للمثقفين ورجال العلوم والتربية، فتصوّرَ نفسَه قادرا على إعادة الولايات المتحدة وبريطانيا وسنغافورة إلى المنظمة، وهو ما عبَّر عنه، في مناسبات عديدة، لعلّ أكثرها رمزية، مداخلته الشهيرة يوم 22 فبراير/شباط 1989 في "مؤتمر التنمية الدولي"، في واشنطن. حيث صرّح هناك: "بالتأكيد، ليس سرّا على أحد في هذه المؤتمر وفي مدينة واشنطن أن انتخابي على رأس يونسكو يترجم رغبة الدول الأعضاء في المنظمة في وضع المنظمة، بشكل مباشر، في علاقة تشابك مع متطلبات العالم الحديث، وهذا عبر دفع الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى وسنغافورة للمشاركة، من جديد، وبشكل كامل، في هذا المجهود الجماعي".
لم ينجح مايور في إغراء الولايات المتحدة بالعودة، كما لم تفلح في ذلك، مغادرةُ أمبو، الذي حظي بغضبة أميركية غير مسبوقة.
وجاء وصول الياباني كويشيرو ماتسورا، سنة 1999، إلى منصب المدير العام، إضافة إلى سياسة ترشيد النفقات في هذه المنظمة الدولية، للمساهمة في تلطيف الأجواء، ثم عودة أميركا، من جديد، إلى مكانها، من أجل استخدام تأثيرها في سياسات "يونسكو".
لا أحد يعرف كم سيستمر الغياب الأميركي "الفعلي" في المنظمة، ويبدو أن الأمر سيستمر، لبعض الوقت، خصوصا أثناء ولاية دونالد ترامب، على الأقل. ترامب الذي يتقن فنّ الانسحاب، الذي عبّر عنه، مؤخرا، بانسحابه من "اتفاق المناخ"، والذي يهدد بانسحابات أخرى "مدوية" قادمة.