عفرين وكركوك والتقاطعات الخارجية

24 مارس 2018
+ الخط -
نجحت القوات التركية وفصائل المعارضة السورية الموالية لها في حسم معركة عفرين لصالحها، بعد السيطرة على مركز المدينة ومناطق واسعة منها في نحو شهرين. وترجع هذه السرعة إلى ثلاثة عوامل: التنظيم اللافت لفصائل المعارضة المنضوية في عملية غصن الزيتون، بفضل الرعاية التركية، والتي حسّنت كثيراً من أداء هذه الفصائل وجعلت منها جيشاً شبه نظامي يقود المعركة بحرفية عالية. وقد استفاد الأتراك من تجربة عملية درع الفرات، والانتصار في عفرين تتويج للخبرة التي اكتسبتها أنقرة وحلفاؤها في هذه العملية. رفع الغطاء الأميركي عن الوحدات الكردية في عفرين، نتيجة الأمر الواقع الذي فرضه الأتراك على الأميركيين. تقاطع مصالح أكبر قوتين إقليميتين معنيتين بالملف الكردي، تركيا وإيران. وقد شوهدت نتائج هذا التقاطع في العملية العراقية المدعومة إيرانيا ضد البشمركة في كركوك بعد الاستفتاء الكردي. منحت أنقرة حينها دعما للعملية، انطلاقا من مصالحها في إحباط مشروع الانفصال، مع أن هذا الدعم أضر بحليفها حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، وساعد الاتحاد الوطني الكردستاني المقرّب من إيران على تحقيق مكاسب سياسية في إقليم كردستان العراق
حسابات الإيرانيين في الشمال السوري معقدة، فهم لا يؤيدون مشروع الوحدات الكردية، لكنهم، في الوقت نفسه، قلقون من توسع النفوذ التركي في الشمال. حاولوا، في بداية العملية التركية، عرقلتها بالدفع بفصائل موالية لهم إلى دخول عفرين لمساندة الوحدات، لكنهم أجبروا بضغط روسي على التراجع. يُسجّل للأتراك أنّهم نجحوا في إقناع موسكو وطهران بتغطية الهجوم سياسياً، وحسموا المعركة بأقل الخسائر العسكرية والبشرية في صفوف المدنيين، ومن دون دمار واسع.
تعيد تجربة الوحدات الكردية في عفرين إلى الأذهان تجربة قوات البشمركة في كركوك، فهما متشابهتان كثيرا من ناحية العوامل الخارجية. في الحالتين، رفعت واشنطن الغطاء عن الفصائل الكردية، وهو ما سرّع بهزيمتهما، فضلا عن التقاطع التركي الإيراني. يتضح من التجربتين أنه متى غاب الدعم الأميركي وتوفر التقاطع الإقليمي انهارت القوة الكردية، والعكس صحيح. على الكرد استخلاص العبرة جيداً وإعادة بوصلتهم إلى الطريق الصحيح، وإلاّ فإن مسلسل الانتكاسات ذات التأثيرين، القريب والبعيد المدى، لن يتوقف.
أبلت القوات الكردية في سورية والعراق بلاءً حسناً في المواجهة مع "داعش". برّر 
الأميركيون دعمهم الوحدات الكردية في شمال سورية تحديداً بأنها ذات تنظيم جيد وكفاءة عسكرية عالية، وأنها قوة لا يُمكن قهرها، على عكس باقي الفصائل السورية المعارضة التي دعمتها واشنطن فترة، وسرعان ما أوقفت هذا الدّعم، بعدما تبيّن أن هذه الفصائل غير قادرة على مواجهة جبهة النصرة. لكن الوحدات لم تصمد أكثر من شهرين في عفرين، ما يعني أن الكفاءة العسكرية هنا ليست ذاتية بقدر ما هي مرتبطة بالدعم الأميركي.
أمر آخر لا بد من قراءته بتمعّن في تجربتي عفرين وكركوك، وهو نجاح القوتين الإقليميتين الكبريين في المنطقة، تركيا وإيران، في فرض مصالحهما على الأطراف الدّولية أيّاً كانت. فما كانت الولايات المتّحدة لتتخلى عن حلفائها الأكراد، لولا تقاطع المصالح التركية – الإيرانية في سورية والعراق. وفي الواقع، ليس الأكراد وحدهم المطالبين بإعادة حساباتهم، بل أميركا أيضاً. وقد أنفق الجيش الأميركي مئات مليارات الدولارات في الحرب على "داعش"، ولم يكن صرف هذه الأموال فقط بهدف هزيمة التنظيم، بل أيضاً لاستثمارها في المشروع الأميركي في المنطقة.
صرفت واشنطن الأموال، وشكّلت تحالفاً عسكرياً دولياً ضخماً قبل ثلاث سنوات، لكنّ من استفاد على الأرض هو الطرف الآخر المناهض لها، تركيا، إيران، وروسيا. هذا ينم عن تخبّط أميركي غير مفهوم في الشرق الأوسط منذ غزو العراق في العام 2003. أسقط الأميركيون نظام صدّام حسين الذي كان الخصم اللدود لطهران، لكنّ النتيجة اليوم أن الإيرانيين هيمنوا على العراق، وباتت كلمتهم هي العليا في بغداد. وفي سورية، تدخّلت أميركا لهزيمة "داعش"، والنتيجة أن نظام الأسد وحليفيه الروسي والإيراني استعادوا زمام المبادرة. تلقفت تركيا التخبط الأميركي جيداً، وقرّرت متأخّرة تغيير وجهتها نحو موسكو وطهران، على قاعدة أن تأتي متأخراً خير من أن لا تأتي.
تغيرت الظروف الداخلية والخارجية كثيراً اليوم، ولم تعد أميركا قادرة على فرض مشروعها على الأطراف الإقليمية، من دون مراعاة مصالح هذه الأطراف. ماذا سيحل بالوحدات الكردية في شرق الفرات، إذا قرّر الأميركيون الانسحاب من سورية؟ هناك رئيس مزاجي في البيت الأبيض، ويُمكن أن يتّخذ قرارات مفاجئة في أية لحظة.