عصرية يا كعك

20 ابريل 2015
دخل الكعك في سباق الوطنية (حسين بيضون)
+ الخط -

ينادي البائع العجوز بأعلى صوته على كعكاته. "كعك.. كعك.. عصرية يا كعك". للرجل موسيقى في صوته تجعل نداءه غناء. موسيقى علقت في خلفية رؤوسنا الصغيرة وكبرت معنا فصرنا كلما سمعناها استعدنا زمناً آخر.

حسناً. فلندع جميع أنواع الأطعمة جانباً ونفكّر بالكعكة التي يجوز أكلها في كل الأوقات، لا في وقت العصر فحسب. فقد ارتبطت تسميتها بهذه الفترة من النهار لسببين. الأول أنها تأتي بين وجبتي الظهر والعشاء وهو الوقت الذي يعود فيه الناس من أشغالهم والأطفال من مدارسهم فيصير "التقاط" بائع الكعك في الشارع أسهل. والثاني أن الأفران العتيقة درجت على خبز دفعتين من الكعك، واحدة في الصباح، وثانية بعد الظهر.

الكعكة وجبة كاملة و"متينة". تستهوي العاديين بسمرتها الجذابة المزينة بحبّات السمسم وتشكّل دعامة للشبع. وسعرها الرخيص ملاذ آمن للجائعين. تترافق بالعادة مع رشّة من الزعتر المجفّف الذي بحسب ما علمتنا الأيام لم يكن يوماً أصلياً بل "ملغوماً" غالباً، أو مع الجبن المعلّب الرخيص، الذي قال لنا الإعلان الشهير ذات يوم إنه فرنسي. وعندما كبرنا عرفنا أن أحداً في فرنسا لم يسمع به.

والكعكة، التي توسّع مبيعها من العربات الخشبية إلى المحلاّت "المتخصّصة" لارتفاع الطلب عليها، أُدخلت عليها في هذه المحلاّت عناصر مضافة جديدة كنوع من "الحداثة" التي وصلت إلى العديد من الأطعمة فخرّبتها. فصار الفلافل يأتي بخبز الهمبرغر، والكرواسون بطعم البيتزا، وصار لكل سندويش "ملكه" المتوّج.

وقد دخل الكعك في سباق الوطنية الذي يجيده اللبنانيون جيداً. فصار هناك كعك "وطني" وكعك "أجنبي" يبيعه السوريون. وصار اللبناني يدلّل على نفسه من خلال تعليق علم بلاده على عربته للدلالة على جنسية صاحبها، فتصير له الأولوية في الشراء وينجو من إزعاج أجهزة الأمن التي تتلذّذ بمطاردة كل من هو "غريب". تصادر العربة، وتحرّر محضر ضبط بحق صاحبها، مع وابل من الإهانات والشتائم المنهالة فوق رأسه.

مع الوقت، والعادات الاجتماعية الكريهة، انتقلت "لوثة" الكعك إلى الملاعب الرياضية ليدخل في لعبة المزايدة بين المشجعين اللبنانيين، فأُلبست الكعكة رداءً طائفياً أحياناً. وقد فعلوا ذلك ظناً أنهم يحقّرون بعضهم من خلال اتهام بعضهم بهذه المهنة الشريفة.

لكن الكعك، بالرغم من كل شيء، سيظلّ من أطعمة الناس العاديين. والجوع الكافر لن يسأل عن الجنسيات يوماً. وإذا مررت في بيروت، ووصلك صوت البائع "عصرية يا كعك"، فخذ واحدة، والتهمها على مهل، وتفرج على المدينة حولك، وغنِّ مع المغني: عصرية يا كعك.
دلالات
المساهمون