وعلى الرغم من المحاولات غير المنتهية للأحزاب السياسية الإسلامية، لاستمالة عشائر الجنوب، إلا أنها تؤكد عدم تجاوبها مع تلك الأحزاب، بحسب أحد شيوخ عشائر البدور في محافظة ذي قار عبد القادر البدري. وقال البدري لـ"العربي الجديد"، " في السنوات الأولى بعد الاحتلال الأميركي للبلاد، خدعنا السياسيون، ولا نستحي من هذا الأمر، لقد خدعنا حزب الدعوة، والفضيلة والمجلس الأعلى، الذين دخلوا علينا بعنوان الدفاع عن المذهب الشيعي، ولأننا عاطفيون ولم نكن نعرف النيات التي يضمرونها لنا وللبلاد بأكملها، قمنا بدعمهم وخصوصاً أوقات الانتخابات وأعطيناهم أصواتنا، لكنهم ما أن تمكنوا من الحكم، حتى ظهر وجههم الحقيقي. وخلال السنوات الأخيرة، زارنا الكثير من قادة الأحزاب، ونحن من العرب الكرماء، نستقبلهم في كل مرة يأتون، ويباشرون بتقديم الوعود التي لا تنتهي، بتوفير الخدمات وفرص العمل وإصلاح الطرق والجسور، ولكننا سمعنا نفس الكلام منذ أكثر من عشر سنوات، ولا نتفاعل معه".
وأضاف أن "وظيفة العشيرة الحالية هي دعم الدولة من خلال مساندتها في بسط الأمن، عبر مساهمتنا في حماية أراضينا، وخلال السنوات الأخيرة استطاعت الكثير من العشائر الخضوع لأوامر الدولة، وما يتعلق بالإجراءات الأمنية والاعتماد على القانون والمحكمة العراقية في الفصل، إذا ما وقعت مشكلة، بين طرفين في نفس العشيرة، أو بين عشيرة وأخرى". وأشار إلى أن "هناك من شيوخ العشائر مَن ينتمون إلى أحزاب إسلامية معينة، ولكن هذا الانتماء يعتبر شخصيا، ويمثل شيخ العشيرة وحده، وليس كل أبناء هذه العشيرة".
من جهته، بيّن رئيس "ملتقى العشائر" في البصرة فايز السعد، أن "العشائر العراقية على مدى التاريخ كانت مساهمة في القرار السياسي ولها دور فعّال في الحقب الماضية، وكانت عندما تضعف مؤسسات الدولة تظهر كداعم للدولة وتعيد هيبة القانون للجهات الرسمية، ولحد الآن هذا ما تعمل على تحقيقه العشائر، وهناك تطور ملحوظ في الاحتكام بواسطة المحاكم والابتعاد عن الأعراف المتوارثة عند القبائل".
وأضاف في حديث لـ"العربي الجديد"، أن " في فترات السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، كان نظام الحكم في العراق يعتقد أن العشيرة تمثل عامل تخلف أو جهل، ولكن الدولة احتاجت إلى العشائر، بعد أن انفلت الأمن في الجنوب، في فترة التسعينات، فاحتوت الدولة هذه العشائر إلى درجة أن النظام آنذاك، بات يعطي لشيوخ العشائر البارزين رواتب مغرية"، لافتاً إلى أن "كل الكتل السياسية والأحزاب الحاكمة في العراق، لديها أجنحة عشائرية، تعتمدها للتثقيف والتعريف بنفسها أوقات الانتخابات، وعلى مر الحكومات الماضية، صارت هذه المكاتب التي خصصتها الأحزاب شبه مهجورة، بعد أن أدرك الناس، أن الحكومات لم تصلح حال البلاد، بل يزداد سوءاً مع تقدم الزمن".
وأردف أن "لكل شيخ عشيرة ميولا خاصة، وفكرا معينا، وبعضهم ينتمي لحزب سياسي معين، أو يؤمن بعقيدة محددة، أما العشيرة كبنية اجتماعية، فتحتوي على مثقفين ومتعلمين وأفكار وتوجهات متعددة ومختلفة، ولا يمكن لأي شيخ عشيرة أن يفرض توجهه على باقي أبناء العشيرة".
وتعد "العشيرة" أبرز بُنية اجتماعية في العراق، إذ تسيطر عرفياً على أبنائها من خلال قدرتها على لم شملهم وحل خلافاتهم ومشاكلهم، سواء داخل العشيرة الواحدة، أو مع فرد من عشيرة ثانية، فضلاً عن مساهمتها بإدارة العلاقات داخل المجتمع وقدرتها على فرض قرارات سياسية أو مطالب واقعية للحكومة. ورغم سلبيات الماضي، جراء العمق القبلي المتأصل، إلا أن العشائر تشهد حالياً تطوراً لافتاً في التعامل مع الأعراف القديمة، وأبرزها الثأر والدية المبالغ فيها، والتي تسمى محلياً "الفصلية"، كذلك إنشاء مقرات خاصة بكل عشيرة، تحتوي على غرف تقام فيها أنشطة توعوية وثقافية، تعمل على تمكين المجتمع وإصلاحه. كما بات ملاحظاً أنها تبتعد يوماً بعد يوم عن التعصب الديني والمذهبي والقبلي، فضلاً عن الانفتاح على باقي القبائل في مناطق مختلفة من البلاد، عبر مجموعات تضم عددا كبيرا من العشائر، معلنة نبذ الأحقاد المترتبة على المجتمع بسبب ما تركته السياسة الطائفية التي تحكم البلاد، والتعاون على مساعدة الآخرين، وهذا ما حدث بالفعل، خلال الأعوام الثلاثة الماضية، حين دهم تنظيم "داعش" في عام 2014 مناطق شمالي البلاد وغربها، وهُجّر أهلها، إذ اتحدت غالبية عشائر الجنوب وكوّنت أكثر من رابطة، ثم وضعت خطط لاستقبال النازحين ورعايتهم.
ولفت الباحث المختص بشؤون المجتمع العراقي محمد الإمارة إلى أن "القبائل العربية جنوب العراق عامل صد رئيسي أمام تحديات سلبية عصفت بالعراق". وأضاف أنه "في أوج الفتنة الطائفية بالعراق 2006 ولغاية 2008 كانت العشائر تتواصل فيما بينها بالجنوب والغرب والشمال، فكما هو معلوم أغلب عشائر العراق فيهم سنة وشيعة بحسب منطقة تواجدها وتوزيعها على الخارطة العراقية". وتابع أن "الغزو الثقافي والاجتماعي والديني الإيراني فشل في مواجهة منظومة العشائر العربية في الجنوب ويجب الإشارة الى أن عشائر الجنوب هم من بطون العرب وأكثرها أصالة بالمنطقة، ففيهم ربيعة وخزاعة وقريش والهواشم والسواعد وطي وقيس وشمر وعنزة والحمدانيون وكنانة والخوالد. وكل قبيلة لها تاريخ وعادات وتقاليد وأصول تحافظ عليها وترفض المساس بها".
وتابع "يمكن القول إن عشائر الجنوب كبنية تحتية للمجتمع أقوى من سلطة الأحزاب وتنافس سلطة المؤسسة الدينية، لهذا نجد أن الحكومات تتهيّب أي تحرك منسق لها منذ انتفاضة العشائر العربية بالعراق عام 1920 ضد البريطانيين، مروراً بالملكية ونظام صدام حسين وانتهاءً بالحكومة الحالية والعملية السياسية ككل التي توجست خيفة من تحرك العشائر بالتظاهرات أخيراً".
والعشائر حالياً، تمثل أحد أبرز أركان التظاهرات في المدينة، التي شارفت على دخول اليوم الستين على التوالي. وقال الناشط من النجف علي السنبلي، لـ"العربي الجديد"، إن "العشائر لم تشارك بتظاهرات المدنيين التي انطلقت في عام 2015، لسبب يقال عنه باللغة العراقية المحلية أنه (ليس من ثوب العشيرة)، أي أن العشيرة أكبر من أن تتظاهر وتطالب، إنما يمكن لها أن تأخذ حقها بالقوة"، مبيناً أن "التظاهرات الشعبية التي انطلقت الشهر الماضي، شهدت مشاركة عدد كبير من العشائر، مثل البو سلطان وآل شيبان وآل عامر وعشيرة الأكرع أو (الكرعان)، خرجت هذه العشائر في أطراف مدينة النجف، في المشخاب والمناذرة والعباسية والحرية، وساندوا المتظاهرين ورفعوا نفس المطالب، المتعلقة بتوفير الخدمات وفرص العمل وغيرها من الاحتياجات العامة لأي إنسان".
وتابع أن "واحداً من أبرز قادة تظاهرات النجف، هو شيخ رحيم الشيباني وهو شيخ عشيرة آل شيبان. هذا الأمر يدلّ على تطور الوعي لدى العشائر ومعرفتها بقوانين البلد، وحق التظاهر السلمي والاحتجاج"، مؤكداً أن "العشائر في النجف لا تزال على موقفها، ولا تقبل بأي تسوية مع الحكومة وهي ثابتة ويشارك أبناؤها في التظاهر منذ أكثر من شهر".
ونوّه إلى "وجود عشائر لم تخرج ولم تتظاهر وتطالب بحقوق الناس المشروعة، بل أرسلت ببرقيات إلى العشائر المحتجة، تدعوها إلى الكف عن التظاهر، وفي الحقيقة أن العشائر الصامتة، بالأصل هي مستفيدة من حزب الدعوة وتحديداً من زعيم الحزب نوري المالكي، الذي يغدق على وجهاء ورجال هذه العشائر بالأموال والامتيازات".
إلى ذلك، أشار عضو المجلس المحلي في محافظة المثنى عمار آل غريب، إلى أن "عشائر المثنى ساهمت بتطوير المجتمع بشكل عام، ولم يعد ابن العشيرة مثل السابق يخضع تماماً لرأي عشيرته إنما يملك لنفسه رأيا خاصا"، مبيناً في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "أبناء العشيرة لهم روابط خاصة بهم وتوجهاتهم، ولكن التواصل مع المجتمع يخضع لقوانين المجتمع الذي لا يخرج عن قانون الدولة".
وأكمل أن "الوضع العشائري في المثنى أصبح أكثر انفتاحاً من دون اللجوء أو الخضوع إلى جهة عليا، ولكن هناك أمورا خاصة بالعشيرة في أوقات معينة، تكون هناك قضايا عشائرية بحتة وتحتاج إلى خضوع أبناء العشيرة إلى رأي الشيخ"، مؤكداً أن "السلوكيات القديمة المتمثلة بأخذ الثأر والفصل والدية المالية المبالغ فيها، فقد باتت أقل في ظل تقدم الوقت، وتأثر أبناء العشيرة بالتطور الذي استهدف كل شرائح المجتمع العراقي". وقال إن "العشائر تعمل حالياً على أن تكون عنصرا إيجابيا يخدم المجتمع ويدفعه إلى التطور، وهناك محاذير كثيرة أبرزها إبعاد السياسيين عن العشائر لأن تدخل السياسة بالعشائر قد يؤدي إلى مشاكل".