عسكر وداعشيّة
في خارطة الدم التي تستدرجنا إليها الوجوه المهذبة، والجميلة أَحيانا، تشترك دول المنطقة الإسلامية العربية، من آسيا إلى إفريقيا، في اقتران العسكرتارية بالمتطرفين الذين خلفوها.
لن ننطلق من الشرق، يحسن، هذه المرة، أن نبدأ بنيجيريا.
في هذا البلد الضخم، الذي وضعته الحركة التكتونية في غرب إفريقيا، تضع الأحداث الإعلامية في قلب التفاعل مع مستجدات التطرف الديني باسم الإسلام، خصوصاً ما تفعله "بوكوحرام"، سواء في رفضها الغرب أو رفض الدولة الوطنية أو ما تجتهد به في رفض التسامح الداخلي، والتمثيل البشع بالأسرى. هذه الحركة الدينية تصدّرت الوقائع اليومية لنشرات الأخبار، عندما عبر قائدها عن نيته في إعلان خلافته، رفضاً أو تقليداً لخليفة بغداد.
وهذا البلد الإفريقي عاش تجربة شبه عربية، شرق أوسطية، في هيمنة الجيش الطاغي على الحياة السياسية. وقد دخلت البلاد، منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، في بحيرة الحكم العسكري المباشر، عبر ما سمي المجلس الأعلى العسكري، ولم يعد المدنيون، في نهاية التسعينيات من القرن نفسه، إلا بعد أن كانت البنيات الأساسية قد ضاعت بوصلتها السياسية، وضاعت التجربة الفتية لثلاث مناطق في الحكم الذاتي النسبي.
ولم تستطع أن تجد عنواناً سياسياً للصراع المحتدم بين المسلمين والمسيحيين سوى عبر التطرف الذي يملأ شاشات العالم وصفحاته.
ولمّا تعطلت السياسة باسم الجيش، حتى في دولة مركبة الإثنيات والعقائد، تم إفساح المجال لأكبر درجات التطرف.
والنتيجة أنه، في صلب التشابه العربي الإسلامي في ترابط العنف بالخلافة، والعودة إلى الوراء، عادة ما يغيب العنصر الرئيسي، ومفاده: لقد خلفت التكبيرات .. أغاني المارش العسكري، وتراجعت صيحات الجيوش الجرارة أمام .. التسبيح بحبات الخرز المصنوعة من الجماجم.
كيف وقع الذي وقع؟
في نيجيريا، ظل الجيش السيد الأول للعبة السياسية، وهو الأب الوطني، بدون الحاجة إلى عقيدة وطنية، وكانت الغريزة السلطوية وحدها كافية في قتل روح الوطن، باسم النشيد العسكري.
النتيجة أن إحدى أغنى دول إفريقيا انهارت، ولم يستطع الجيش فيها أن يقصم ظهر حركاتٍ مازالت، على الرغم من ترسانتها من الوحشية، لم تتحول إلى قوة حاشدة، كما في غيرها من الدول.
بغداد التي حكمها الجيش، باسم اشتراكية الثكنات وقومجية القطارات المصفحة والانقلابات، لم يبق فيها من الدولة سوى دموع نائب برلمانية، أو صور فيديو لصحافي يذبح على الهواء.
وانهارت أسطورة الجيش الرابع، ولم تترك وراءها سوى رايات سوداء، وعجز جماعي عن بناء مشترك سياسي واحد، قادر على إعطاء الدولة العراقية جسداً قبل الروح.
وكان لابد من جيش أجنبي، لكي ينقذ السني من الشيعي، والشيعي من السني.
ولم نخرج من الثكنة التاريخية التي دخلناها من زمن بعيد.
في سورية الشيء نفسه. كان للديكتاتورية العسكرية وقع رهيب، بعد أن تبين أنها في حاجة إلى إسمنتٍ طائفيٍ، يلغي أي تحول إلى دولةٍ مدنية، وعجز الربيع أن يكون ربيعاً بدون مجنزرات!
وفي دول شمال إفريقيا، مازالت الرايات السوداء لم تعمر فوق السطوح، ولا فقدت الدولة إغراءها، لكن الجيوش تصنع الفراغ على طريقتها، يخلّف داعشيين حليقي الذقون، ووسماء أحيانا، ويجيدون الشوكة والسكين.
كما أن معادلة السياسة والدولة في شمال إفريقيا لم تعد تغيب في معطياتها الصراع مع قوى تتنامى في أحضان حلم الخلافة.
وما زالت في دول المنطقة جيوش، بهذا القدر أو ذاك، لم تنتقل إلى الاحترافية المهنية، ومن ثمة، الانتقال إلى بناء كيان بعقيدة وطنية، لا يفهم في السلطة سوى سلطة زمان السلاح والدفاع عن الحدود الوطنية، أو الاستثمار في البحث التكنولوجي، ولم لا يحلم بأن تكون له نازاه الخاصة (ناسا).
لقد حاول الربيع العربي، بمساعدة دوليةٍ، أن يجعل، من تجربة التعايش بين العسكر والقوى المنبثقة عنه، إمكانيةً للتوافق التاريخي، يفسح المجال للسياسة من بعد، بتوجه واضح نحو الديموقراطية. لكن، فشل هذا السيناريو، وفشلت محاولة التطور الذاتي، من فيالق تمارس السياسة إلى جيوش نظامية احترافية، وكان البديل عودة حلم الخلافة المدجج بالسلاح والرؤوس المقطوعة.
الأنكى أنه لم يعد ممكناً أن نخرج منه إلا إذا ساعدتنا جيوش أجنبية، وغربية في أكثرها (مالي، العراق، ليبيا، وسورية على جدول الأعمال)، كما لو أن مزحة التاريخ تريد القول: إذا فشلت الديموقراطية الغربية في العالم الإسلامي، فيمكن أن نجرب نجاح العسكرتارية الغربية!