في هذا العمل الجديد، يعالج صاحب "ثورة مصر" (2016) أوجهاً من إشكالية الجيش والسياسة التي تعيش على وقعها بلدان عربية عدّة، ويقارب بالأساس النموذجين المصري والسوري ويفحص مقولات رائجة في مصادر أكاديمية غربية، بناءً على التجربة العينية. كما يبحث في العلاقة بين الجيش والسياسة انطلاقاً من أنْ لا جدارَ فاصل بينهما بحكم تعريفهما؛ إذ يتدخّل الجيش في الحكم ويتحوّل إلى قوّة قمعية، تدافع عن النظام القائم، أي عن سلطته وامتيازاته.
يضمّ العمل ثلاثة فصول، الأول يحمل عنوان "الجيش والحكم عربياً: إشكاليات نظرية"، أما الثاني فهو بعنوان "فشل بوتقة الصهر العسكرية وبروز الولاءات ما قبل الوطنية في الجيش - الحالة السورية"، فيما عنون الفصل الأخير بـ"تحوّلات الجيش المصري".
بدأ بشارة عمله كما في أعمال سابقة بوضع "تحديدات لازمة" بين المصطلحات والمفاهيم، أولها تشديده على أنّ الجيش هو الجيش النظامي حول نواة من المحترفين المتفرّغين للحياة العسكرية في زمني السلم والحرب، فهو لا يقصد القوى غير النظامية المسلحة في خدمة عقيدة أو طبقة أو قضية أو حزب، وثاني هذه التحديدات هو التمييز بين الاحتراف والمهنية في تحديد سلك الضباط. وثالثها أنّه ما من جيشٍ بعيد عن السياسة بحكم تعريفه، من منطلق تطلّع الجيش إلى السياسة بمعناها الضيق، "أي ممارسة الحكم والاستيلاء عليه أو المشاركة فيه أو اتخاذ القرار في شأنه، وهي ليست قائمةً في الدول الديمقراطية".
يرُدّ بشارة الجذور الاجتماعية للبريتورية إلى الفجوة بين المدينة والريف، فيقول في هذا السياق: "يؤدّي النشاط السياسي في المدينة ضد النخبة الحاكمة إلى عدم الاستقرار، وغالباً ما يُستخدم الريف لقمع هذا النشاط السياسي، لكن إذا استدار الريف ضد النظام، فسيواجه الأخير ثورةً وليس عدم استقرار فحسب".
ومن هنا يدرس كون الجيش يصبح في هكذا وضعيات وسيلةً للترقي الاجتماعي – الاقتصادي في مجتمعات فلاحية، إذ "أصبحت العسكرية في الدول النامية والمستقلة حديثاً المسار الرئيس لتقدّم أبناء الفلاحين وأصحاب المهن صعوداً على السلم الاجتماعي، وذلك بعد أن كانت البنى التقليدية وثقافتها تحدّد مسار حياتهم وتقرّر مصائرهم سلفاً وتمنعهم من تغيير مكانتهم الاجتماعية والاقتصادية".
يرسم الفصل الأول من الكتاب أيضاً خريطةً للصراعات الحزبية والأيديولوجية التي تتخلّل الولاء العسكري، والرهانات الدولية على الجيش ودوره في السياسة، حيث يرى أن الضباط لا يقومون بانقلاب من أجل أن يحكم آخرون، ممحّصاً "الوهم" الذي تروّجه قوًى سياسية واجتماعية في البلدان العربية مفاده أنّ الضباط يقومون بانقلاب في خدمتها.
في الفصل الثاني، يدرس بشارة مراحل تطييف الجيش وعسكرة الحالة الطائفية في سورية: بداية من مرحلة الاحتلال والانتداب الفرنسي على سورية حتى الجلاء التي اتّسمت ببروز الوحدات الإثنية الطائفية والأقوامية في داخل الجيش، كما يدرس مرحلة الكتل العسكرية العقائدية والجهوية المتصارعة التي انقسم فيها التنظيم العسكري العقائدي إلى كتلتين كبيرين؛ إحداهما تحريرية، نسبةً إلى حركة التحرير العربي التي أسّسها أديب الشيشكلي، والأخرى اشتراكية، وقد كان أكرم الحوراني أبرز الفاعلين فيها.
يضاف إليهما الجناح العسكري للحزب السوري القومي الاجتماعي بقيادة العقيد غسان جديد، ومجموعة الضباط اليساريين المتأثّرين بالحزب الشيوعي السوري. كما انبثقت كتلة ثالثة كبيرة هي كتلة "الضباط الشوام" التي التفّت حول العقيد عدنان المالكي، ثمّ المرحلة الأولى للجيش العقائدي، وقد تمّ فيها تبعيث الجيش وفق عقيدة رسمية قومية يسارية جديدة، ثمّ المرحلة الثانية للجيش العقائدي وتحوّلاته في أثناء إعادة بناء الجيش السوري، وذلك بعد حرب 1973، وبروز رفعت الأسد وجيشه الخاص ضمن الجيش السوري، ثمّ إخفاق انقلابه في أواخر عام 1982؛ وأخيراً مرحلة "قائدنا إلى الأبد ... الأمين حافظ الأسد"، أي مرحلة توقيع العسكر ولاءهم لحافظ الأسد بدمهم، وإحداث الحرس الجمهوري.
في الفصل الثالث، "تحوّلات الجيش المصري"، يقدّم بشارة قراءة في تاريخ المؤسسة العسكرية المصرية تقوم على مجموعة من مراحل هي على التوالي: هيمنة العسكر وتداخل سلطات الجيش والرئيس، وخضوع الجيش لمنصب الرئاسة، والصفقة التاريخية واستقلالية الجيش.
يصل صاحب "أن تكون عربياً في أيامنا" (2009) بالتحليل إلى 2011، والتي يقول بخصوصها أن كثيرين أخطؤوا بعدم توقعّهم حدوث ثورة في مصر، حين اعتقدوا أنّ الجيش يحكم مصر "والحقيقة أنّ الجيش كان مقصىً عن حكم مصر عشية ثورة 25 كانون الثاني/ يناير، لكنه كان يتمتّع بحكم ذاتي".