عرفات وأنا: سيرة غير ذاتية
في بواكير وعيي الوطني، وقبل أن أبلغ العاشرة، كانت صورته، بالكوفية، والبزة العسكرية، والمسدس، تغنيني، وكثيرين من أبناء جيلي، عن الحلم بنموذج، لمستقبلنا، أو مثلٍ أعلى، سواه.
ما حاجتنا إلى أبطال الأساطير القديمة، قالت طفولتنا، وأمامنا رمز، من لحم ودم، يشبه آباءنا، وأجدادنا، وله لقب تقليدي، مثلهم: أبو عمار.
لا أتذكر، اليوم، كيف تأسست حال الانبهار الجماعية بالرجل، الذي سيقود الشعب الفلسطيني أربعة عقود لاحقة، ولكني لن أنسى أن لعبتنا المفضلة، بين أزقة المخيمات، وحواري الأحياء الفقيرة، في مدينة الزرقاء الأردنية، صارت، من بعد ما عرفناه، صناعة البنادق الخشبية، لنعيد تمثيل الحكايات التي نسمعها، من الكبار، عن عمليات فدائية يخوضها ورفاقه في حركة فتح ضد إسرائيل.
ستتآكل الأسطورة، بعض الشيء، بخسارة عرفات المعركة مع الملك حسين، وبخروجه من الأردن مهزوماً أواخر عام 1970، بينما ستقودني سنوات الشباب المبكر، في الأردن، إلى مصادفة التعرف على اليسار الأردني/ الفلسطيني المحظور. وهناك، سأقرأ في الأدبيات، المتداولة سراً، ما يشير إلى قيادة ياسر عرفات بصفتها يمينية، برجوازية، وباعتباره ارتضى المساومة على حق الفلسطينيين في فلسطين التاريخية، وتبنّى برنامجاً سياسياً يكتفي بدولة في الضفة الغربية وقطاع غزة.
الجدل حول البرنامج المرحلي لمنظمة التحرير، صار، إبّان تلك الحقبة، عنواناً لانتقاد سياسة عرفات، الذي ظل يتحدث، في المقابل، عما كان يسميه "ديمقراطية الثورة في غابة البنادق"، من دون أن يكف عن سعيه إلى تسوية سياسية تاريخية، مع إسرائيل، حتى بعدما اجتاحت جنوب لبنان، وحاصرت بيروت، ثمانين يوماً، انتهت برحيله، ومقاتلي منظمة التحرير، بأسلحتهم الفردية، إلى تونس واليمن والجزائر والسودان. هنا سيقدم التاريخ فرصة أخرى لترميم الأسطورة، وسيتحدث الفلسطينيون عن صمودهم غير المسبوق، أمام الآلة العسكرية الإسرائيلية، وعن شجاعة عرفات، في مواجهة محاولات شارون، وزير الحرب الإسرائيلي آنذاك، قتله، وسيكتب محمود درويش رائعته "مديح الظل العالي" :
... "هي هجرة أخرى/فلا تكتب وصيتك الأخيرة، والسلاما/سقط السقوط، وأنت تعلو/فكرة، ويداً، وشاما
بيدّ أن "الظل العالي" لم يبق كذلك تماماً في نظر فلسطينيين كثيرين. وما كادت تمر سنة واحدة، حتى عاد الانقسام الفلسطيني، ليبلغ إحدى أخطر ذرواته، بفعل الاختلاف مع عرفات، وعليه. في تلك الآونة، كنت أبدأ أولى خطواتي صحافياً، وهكذا ساهمت، مع عشرات الكتاب والصحافيين الفلسطينيين، وعلى مدى سنوات لاحقة، في التصدي لما كنا نصفه بـ"سياسة التفريط، التي تنتهجها القيادة اليمينية المنحرفة". ومع اقتراب عام 1987 من نهايته، أشعل فلسطينيو الضفة الغربية وقطاع غزة انتفاضتهم الشعبية، التي فرضت إعادة توحيد منظمة التحرير، وأعادت عرفات رقماً صعباً، كما كان يحب أن يقول، وهو يغذّ الخطى، ويناور، لاستثمارها سياسياً، وصولاً إلى إبرامه اتفاقيات أوسلو، متحدياً معارضة واسعة، أسهمتُ فيها، كصحافي وكاتب سياسي، ووصل غلو بعض أطرافها، أحيانا، إلى حد تخوينه.
المهم أن عرفات صار رئيساً بلا دولة، ولم يطل به الزمن كثيراً ليكتشف أن السجاد الأحمر المفروش أمامه وسط حرس الشرف، وعلى أنغام النشيد الوطني الفلسطيني، سيوصله إلى أحد خيارين، أن يتحول شرطياً لأمن إسرائيل، أو يموت.
وإذ اختار "أبو الوطنية الفلسطينية" نهايته بالقول القاطع "شهيداً شهيداً شهيداً"، فإن صورته الأسطورية أخذت تعود إلى عهدها الأول، بدءاً برفضه الاستسلام أمام دبابات شارون، وهي تحاصر مقره، مروراً برفعه إشارة النصر، على سلم الطائرة التي نقلته، في مثل هذه الأيام، قبل عشر سنين، ليموت في باريس، وحتى تشييعه، ودفنه، في رام الله.
أصاب وأخطأ، لكن فرادته، زعيماً وطنياً استثنائياً، محنكاً، وشجاعاً، لم تعد، اليوم، محل خلاف، وهي على الأرجح سبب اغتياله، في زمن منح سواه كل أسباب الحياة.