العاهل المغربي وجه دعوة إلى الجزائر من أجل طيّ صفحة الخلافات الثنائية، من خلال إرساء آلية سياسية تهدف لمناقشة الملفات العالقة التي تثير التوتر بين البلدين الجارين، مؤكداً انفتاح المغرب على الاقتراحات والمبادرات التي قد تتقدم بها الجزائر، بهدف تجاوز حالة الجمود في العلاقات.
دعوة المغرب إلى حوار مباشر مع الجزائر، ليست الأولى من نوعها، كما قد يتبادر إلى أذهان الكثيرين، بل سبقتها دعوات من العاهل المغربي نفسه في خطابات ومناسبات سابقة، اقترح فيها الحوار الثنائي لتبديد الخلافات. كما سبق له أن دعا إلى فتح الحدود البرية المغلقة بين الدولتين منذ 1994، على خلفية تفجيرات فندق أطلس أسني في مراكش، ووجه يومها المغرب اتهامات للجزائر بالوقوف وراء التفجير الإرهابي.
الملك محمد السادس، أكد في خطابه الجديد، أن الدعوة ليست الأولى من نوعها بالقول: "طالبت منذ توليت العرش بصدق وحسن نية، بفتح الحدود بين البلدين، وبتطبيع العلاقات المغربية الجزائرية"، مضيفاً: "اعتباراً لما نكنّه للجزائر، قيادةً وشعباً، من مشاعر المودة والتقدير، فإننا في المغرب لن ندخر أي جهد من أجل إرساء علاقاتنا الثنائية على أسس متينة من الثقة والتضامن وحسن الجوار".
الملك المغربي سوغ دعوته، إلى حوار مباشر مع الجزائر، بمعطى سياسي هو "أن واقع العلاقات بين البلدين الجارين لا يتماشى مع الطموح الذي كان يحفز جيل التحرير والاستقلال على تحقيق الوحدة المغاربية، والذي جسده آنذاك مؤتمر طنجة سنة "1958"، ومعطى تاريخي يتمثل في قوله: "قاومنا الاستعمار معاً لسنوات طويلة حتى الحصول على الاستقلال، ونعرف بعضنا جيداً".
أما المعطى الاجتماعي في خطاب العاهل المغربي فجاء في قوله: "كثيرة هي الأسر المغربية والجزائرية التي تربطها أواصر الدم والقرابة". كما لم يغفل المعطى الاقتصادي بقوله: "مصالح شعوبنا هي في الوحدة والتكامل والاندماج الاقتصادي، بدون الحاجة لطرف ثالث للتدخل أو الوساطة بيننا".
ويبدو أن العاهل المغربي توسّل بمعطيات الجغرافيا وواقعها (القرب والجيرة)، وواقع التاريخ (مواجهة الاستعمار الفرنسي معاً ومشاركة المغاربة في الثورة الجزائرية ضد المحتل)، وأيضاً بالواقع الاقتصادي المؤلم (خسائر اقتصادية فادحة يكبدها التنافر بين البلدين)، وذلك كله من أجل أن يضع سياقاً مناسباً لدعوته الجديدة إلى حوار مباشر مع الجزائر.
ولعل الجديد، في الدعوة المتكررة لملك المغرب إلى "الأشقاء الجزائريين"، هو حديثه لأول مرة عن إرساء آلية سياسية تتكفل بهذا الحوار، بعدما كانت دعواته إلى الحوار في مناسبات سابقة عامة، كانت تردّ عليها الجزائر بدبلوماسية دون أن يتم تنزيلها إلى أرض الواقع.
وفي الوقت الذي لم تُعرف بعد ماهية هذه الآلية وكيف سيتم تشكيلها في حال وافقت الجزائر، فإن الملك المغربي وضع لها هدفاً بارزاً هو "الانكباب على دراسة جميع القضايا المطروحة، بكل صراحة وموضوعية، وصدق وحسن نية، وبأجندة مفتوحة، ودون شروط أو استثناءات".
ويبدو أن إشارة العاهل المغربي إلى عبارة "دون شروط أو استثناءات" تحمل في طياتها رداً ضمنياً على اشتراطات جزائرية سابقة بشأن الحوار مع المغرب وفتح الحدود البرية المغلقة، منها الوقف الفوري لما تعتبره الجزائر حملةَ تشويه يتعمدها المغرب ضدها، واحترام الرباط موقف الحكومة الجزائرية بشأن نزاع الصحراء التي تعتبرها مسألة "إنهاء استعمار"، ثم الشرط الثالث متمثلاً في وقف ما تسميه الجزائر حملة إغراقها في المخدرات المغربية.
أما المحور الثاني الرئيسي، في خطاب العاهل المغربي، فتجلى في محاولته الفصل بين مسارات الصحراء وعلاقات الرباط بالجزائر. وفي وقت دعا إلى حوار مباشر مع الجزائر، شدد على أن سقف حل نزاع الصحراء هو الحكم الذاتي، غير أن هذا الطرح لا توافق عليه الجزائر التي تدعم مبدأ "تحقيق المصير" لما تسميه "الشعب الصحراوي".
وفي السياق، أعلن الملك المغربي عزمه على مواصلة "النهوض بتنمية الأقاليم الجنوبية، في إطار النموذج التنموي الجديد". كما لم يفته الإعلان عن "استمرار البلاد في الاستثمار في شراكات اقتصادية ناجعة ومنتجة للثروة"، رافضاً أية شراكة تمسّ الوحدةَ الترابية للمغرب، في إشارة إلى دعوات جبهة البوليساريو إلى عدم تضمين الاتفاق المغربي - الأوروبي حول الصيد البحري للأقاليم الصحراوية.
ويعتبر عضو مركز الرباط للدراسات السياسية، كريم عايش، أن "الكرة التي ألقى بها الملك محمد السادس إلى الجزائر، بإرساء حوار مباشر يناقش جميع الملفات بدون تحفظات ولا استثناءات، ليست في مرمى قصر المرادية بالجزائر فقط، بل أيضاً عند نخبة الجزائر المثقفة وباحثيها وأكاديمييها، من أجل تحمّل مسؤوليتهم التاريخية إزاء العرض المغربي الصريح".
ودعا عايش، في حيث لـ"العربي الجديد"، النخبة الجزائرية إلى التحلي بالشجاعة والصفاء الذهني، للتفاعل والتفكير في الصيغ والأفكار الكفيلة بفتح حوار شامل يضم كل القضايا، وأيضاً تأسيس معايير داخلية لجدولة وترتيب الأفكار والرؤى في أفق أهداف واضحة ومحددة، قوامها النهوض بالبلدين وفق علاقة حسن الجوار والمصير المشترك. وبرأيه، إن "دعوة المغرب نابعة من مشاعر التآخي والتآزر، وهي سمة توجد أيضاً في الشعب الجزائري الذي لم يبخل بمواقفه الداعمة قضايا العالم العربي والإسلامي، رغم مواقف حكام الجارة الشرقية المناصرة لأطروحة جبهة البوليساريو المطالبة بانفصال الصحراء عن سيادة المملكة"، وفق تعبيره.
في المقابل، تساءل الأستاذ في جامعة مراكش، محمد الزهراوي، عن مدى توفر الشروط للحوار مع الجزائر، لافتاً إلى أن "الحوار قد يكون غير مجدٍ مع القيادة العسكرية المكونة من الجنرالات الذين يحكمون في الحقيقة الجارة الشرقية للمغرب". واستبعد الحوار مع "نظام عسكري ترتكز عقيدته السياسية والعسكرية على العداء المطلق للمغرب" وفق تعبيره رداً على سؤال لـ"العربي الجديد". ويرى مراقبون أن دعوة المغرب إلى الحوار المباشر مع الجزائر تأتي في سياق ساخن يتعلق بمستجدات نزاع الصحراء، منها دعوة الأمم المتحدة أطرافَ النزاع، خصوصاً المغرب والبوليساريو، إلى الاجتماع حول طاولة مستديرة تحضرها الجزائر، في جنيف السويسرية يومي 4 و5 ديسمبر/كانون الأول المقبل.
ووفق بعض المراقبين، فإن الدعوة إلى الحوار ليست هدية سياسية إلى الجزائر، بقدر ما هي محاولة من الرباط لكسب نقاط سياسية في ملف الصحراء، ومحاولة استمالة الجزائر أو على الأقل تحييدها في أفق المشاركة في الموعد المقرر في جنيف، خصوصاً أنها تقدم نفسها على كونها مجرد "مراقب" في الملف، وليست طرفاً في النزاع كما يطالب المغرب.
وعلى صعيد آخر، سادت المغرب أجواء "احتفال" بدعوة الحوار المباشر مع الجزائر، ليس فقط لأسباب وأهداف سياسية، سواء تعلق الأمر بنزع فتيل التوتر أو الرغبة في التعاون الأمني، بل أيضاً لغايات اجتماعية واقتصادية لها مرامٍ استراتيجية، باعتبار أن البلدين قوتان أفريقيتان وسيتبدل الكثير لو وحّدتا جهودهما لمواجهة التحديات.