قبل ثلاثة أعوام، يفوز المخرج الفرنسي، التونسي الأصل، عبد اللطيف كشيش بـ "السعفة الذهبية"، في الدورة الـ 66 (15 ـ 26 مايو/أيار 2013) لمهرجان كان السينمائي الدولي. عربي جديد يشارك في أحد أبرز المهرجانات الدولية وأهمها، ويحصل على جائزته الأولى. لكن السينمائي العربي الجديد نفسه لم يقدم عملاً عربياً، ولم يحصل على إنتاج عربي لتحقيق عمله هذا، ولم يقارب فيه أي مسألة عربية، ولم يتعاون مع ممثلين - أو تقنيين - عرب لإنجازه. فيلمه الفائز، "حياة أديل"، فرنسي الإنتاج، بمشاركة إنتاجية من بلجيكا وإسبانيا، يُقتبس من رواية مصورة بعنوان "الأزرق لون ساخن" للفرنسية جولي مارو، عن علاقة حب خطرة وعاصفة بين امرأتين.
تكريمات
لن يقف هذا كله حائلاً دون استعادة تاريخية، حينها، للحضور السينمائي العربي في المهرجان المصنف "فئة أولى" في العالم، وهو حضور يبدأ منذ منتصف القرن الـ 20 تقريباً. استعادة تميل إلى الاحتفاء والتكريم، وإلى تأكيد فعالية النتاج السينمائي وقدرته على بلوغ مراتب دولية مهمة، وإلى الإشادة ببراعة السينمائي العربي في "احتلال" مكانٍ ما في "كان"، وغيره من المهرجانات الدولية. والاستعادة هذه ـ إذ تكتفي بتأريخ الحضور، وتقديم لائحة بأبرز السينمائيين المشاركين، وبالأفلام المشاركة، وبالجوائز التي يحصدها هذا الفيلم أو ذاك ـ تنطلق من حس انفعالي "إيجابي" إزاء ما يعتبره صاحب الحس هذا "اعترافاً" دولياً بما تنجزه السينما العربية من عناوين، تتمكن من فرض نفسها في المشهد الدولي.
اقــرأ أيضاً
يمكن، بالتالي، التنبه إلى مسألة أخرى: إلى أي مدى تلتزم إدارة المهرجان بالسينما في اختياراتها؟ لن يكون السؤال اتهامياً، إذ تكشف غالبية الأفلام العربية (على الأقل)، المشاركة سابقاً، وجود نواة جوهرية للبناء السينمائي الجمالي، ومعاينة بصرية لمسائل متوغلة في البنيان الاجتماعي الثقافي العربي، واستعادة لمحطات تاريخية يرتبط العرب بها، مباشرة أو غير مباشرة.
تؤكد غالبية الخيارات العربية السابقة لـ "كان" وجود "مصداقية" في التعاطي مع النتاج البصري، انطلاقاً من مدى استجابته للشرط السينمائي أولاً، ومن جدية موضوعه ومعالجته ثانياً. ومع أن المهرجان يحاول، عبر خياراته، تسليط الضوء، أحياناً، على "مناطق جغرافية" محدّدة، عبر سينماها، لتبيان وقائع السياسة والاجتماع والسلوك والعيش اليومي فيها؛ إلا أن المحاولة تستند، غالباً، على حيوية السينما بحد ذاتها في استيفاء مقوماتها الجمالية والدرامية والفنية. ومع أن المهرجان نفسه "يخرق" نظامه الداخلي، كما هو حاصل في دورة عام 2016، بإشراك فيلم "البشمركة" للفرنسي الصهيوني برنار ـ هنري ليفي بعد أيام على بدء دورته الأخيرة؛ إلا أنه لم يرضخ ـ في المقابل ـ لضغوط يهودية متطرفة في مدينة "كان"، تطالبه بمنع عرض 13 دقيقة فقط من فيلم غير مكتمل للفلسطيني نصري حجّاج، بعنوان "ميونخ، قصّة فلسطينية".
اقــرأ أيضاً
نظرة
إلقاء نظرة نقدية على بعض أبرز الأفلام العربية، الفائزة بجوائز من "كان"، كفيل، إلى حد كبير، بتوضيح المسألة برمتها. فبعيداً من "حياة أديل" لكشيش، يمكن العودة إلى عام 1991، مع فوز "خارج الحياة" للّبناني الفرنسي الراحل مارون بغدادي (1950 ـ 1993) بجائزة لجنة تحكيم الدورة الـ 44، مناصفة مع "أوروبا" للدنماركي لارس فون ترير. بعد ذلك بـ 11 عاماً، يحصل الفلسطيني إيليا سليمان على الجائزة نفسها، وحده هذه المرة، عن "يد إلهية" (دورة عام 2002). قبله، يكرم المصري الراحل يوسف شاهين (1926 ـ 2008)، بمنحه جائزة العيد الخمسين للمهرجان (1997)، عن مجمل أعماله، هو المعتاد دائماً أن يشارك فيه بأفلام يصنعها بشغف حرفي كبير، وإن يحتاج بعضها ـ خصوصاً تلك المنجزة في الأعوام الأخيرة من حياته ـ إلى نقاش نقدي آخر.
المصري يسري نصر الله لن يبقى خارج كان أيضاً. ففي عام 2012، يتمّ اختيار "بعد الموقعة" للمسابقة الرسمية، علماً أن تعليقات جمة تتناول، حينها، "الجانب السياسي" البحت في عملية الاختيار، إذ ينجز الفيلم بعد أشهر قليلة على اعتداء "بلطجية" الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك، في 2 فبراير/ شباط 2011، على المتظاهرين ضده، فيما يُعرف بـ "موقعة الجمل" (هذه نواة الحبكة الدرامية للفيلم). الاختيار سياسي؟ ربما. لكن الفيلم ـ بصرف النظر عن أهميته في محاولة تأريخ اللحظة تلك سينمائياً ـ يبدو متسرعاً في قراءتها (اللحظة)، عبر فيلم روائي لن يكون، جمالياً وفنياً ودرامياً، بالمستوى الإبداعي الرائع لأفلام أخرى له، كـ "سرقات صيفية" (1988) و"مرسيدس" (1993) و"صبيان وبنات" (1995) و"المدينة" (1999)، وغيرها. وهذا على نقيض الفيلم القصير "داخلي/ خارجي"، المشارك به في المهرجان أيضاً، من خلال فيلم جماعي لـ 10 مخرجين مصريين بعنوان "18 يوم"، تناولوا عبر 10 أفلام قصيرة لهم بعض ملامح "ثورة 25 يناير" (2011). الفيلم الجماعي هذا، إذ يعرض للمرة الأولى في دورة عام 2011 لـ كان (ما يعني "احتمال" وجود سبب "سياسي" أيضاً وراء الاختيار)، لن يلغي متانة الحبكة الدرامية في مقطع نصر الله في سرد الحكاية (زوجة ترغب في النزول إلى الشارع، وزوجها يرفض ذلك، قبل اقتناعه بحقّها في التعبير عن نفسها ورأيها، وبحق المصريين في الانخراط في حراك سلمي ضد الطاغية)، وفي الاشتغال الدرامي والجمالي، وفي قراءة حالة مصرية واقعية في ظل الحراك الشعبي، بلغة سينمائية متماسكة، تتلاعب ـ بصرياً وفنياً وجمالياً ـ على ثنائية الداخل والخارج، في النفس والروح والمكان والتساؤلات والعلاقات.
اقــرأ أيضاً
جحيم الواقع
استناداً إلى قصة واقعية تجري فصولها في عام 1987، بطلها صحافي فرنسي يدعى روجيه أوك (1956 ـ 2014)، يقدم مارون بغدادي "خارج الحياة"، مستفيداً في بنائه الحكائي من تجارب غربيين آخرين يخطفون، هم أيضاً، في بيروت، في ثمانينيات الحرب الأهلية (1975 ـ 1990) تحديداً. لن يكون الفيلم حكماً مسبقاً، لا إيجابياً ولا سلبياً، ولا "مع" الضحية ولا "ضد" الجلاد. الحبكة في مكان آخر تماماً، تنطلق من تساؤلات عامة: أيمكن للضحية أن تتصالح مع الجلاد، بعد خروجها من الاعتقال، أو أثناءه؟ كيف يمكن تحديد الحد الفاصل، في عملية الخطف بحد ذاتها، بين السياسي ـ الثقافي ـ الإيديولوجي، والإنساني؟ هل الخطف، أساساً، يعي معنى الضحية البريئة، أو أن الوعي، هنا، "مطلوب" و"ضروري"، ويتم إدخاله في لعبة مصالح بحتة؟ تميل الإجابة إلى هذا كله، لأن الفيلم مبني على سرد شفاف لعلاقة تنشأ بين الصحافي المخطوف باتريك بيرو (إيبوليت جيراردو) وخاطفيه. علماً أن السرد مغلف بحساسية سينمائية، مرتكزة على توليف يتكامل والإيقاع المتوازن بين خصوصية العلاقة تلك، والمناخ العام خارج أسوار الاعتقال، وإنْ لم يظهر الخارج كثيراً، من دون تناسي سلاسة السرد الدرامي، التي لن تخفي عمق المعالجة الإنسانية للعلاقة الملتبسة تلك.
"يد إلهية" مختلف تماماً. لغته السينمائية أمتن وأجمل في متابعتها وقائع العيش الفردي في ظل الاحتلال، بعيداً عن خطابية المواجهة والنضال. اللغة نفسها تُستخدم، بحرفية واضحة، في تفكيك البُنى الاجتماعية والإنسانية والسلوكية في الاجتماع الفلسطيني، المقيم في ظل الاحتلال الإسرائيلي الساعي إلى تفكيك الجغرافيا ونسيج العلاقات المختلفة بين الفلسطينيين. اللغة نفسها أيضاً، المرتكزة على متتاليات سينمائية أشبه بلوحات فنية ملونة بحكايات فردية مفتوحة على وقائع الحال في فلسطين المحتلة، تتوغل في أعماق البيئة الفلسطينية، كاشفة مواجعها وأحلامها ومواجهاتها الصامتة والسلمية والحادة ـ في آن واحد ـ في سخريتها ونزقها ضد المحتل، كما ضد الفرد الفلسطيني المستكين، غالباً، إلى تقاليد عيشه.
اقــرأ أيضاً
فيلمان يغوصان في جحيم الواقع الإنساني الفردي، المفتوح على جرح الجماعة في مواجهة تحديات العيش اليومي على تخوم الموت والخراب، كما على تماسٍ حيويّ مع أمل الانتصار، للذات الفردية على الأقل، في أحلامها، وإنْ تكن الأحلام مُعلّقةً.
التباسات
في عام 2009، يشارك الروائي الثالث لسليمان نفسه، "الزمن الباقي"، في "كان" ضمن "الاختيار الرسمي". لن يفوز الفيلم بأي جائزة، لكنه يؤكد، مجدداً، حرفية سينمائي يستمر في التنقيب في البيئة الفلسطينية، انطلاقاً من ثنائية الاحتلال الإسرائيلي والاجتماع الفلسطيني. العودة إلى نكبة عام 1948 مردها رغبة في سرد تاريخ العائلة، وإنْ بتوار سينمائي بديع خلف الصورة ولغتها أولاً، وخلف التاريخ والحاضر الجماعيين، ودهاليزهما ومتاهاتهما وأسئلتهما المعلقة ثانياً. المحطات التاريخية عديدة، وقسوة الاحتلال حاضرة، والتخبط الفلسطيني ـ اجتماعياً وسياسياً وثقافياً وإنسانياً ـ موجع، وإن يتمّ تغليفه بنسق ساخر.
بعد ذلك بعام واحد فقط، يتمّ اختيار "خارجون على القانون" للفرنسي الجزائري الأصل رشيد بوشارب للمسابقة الرسمية في دورة عام 2010، علماً أن فيلمه السابق "بلديون" ينال جائزة التمثيل في دورة عام 2006، التي يحصل عليها الممثلون الأربعة سامي بوعجيلة وجمال دوبوز وسامي ناسيري ورشدي زيم. سينمائياً، لن يكون الفيلمان عاديين، لكنهما لن يبلغا مرتبة باهرة من الإبداع البصري. متانة الحرفية واضحة، لكن النواة الدرامية أقرب إلى تأريخ لحظات "منسية" في التاريخ المغاربي، في ظل الاستعمار الفرنسي، خصوصاً أثناء الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945). أهميتهما الأساسية كامنة في تبيان حقائق غير متداولة رسمياً، لكن السينما لم تخرج من تقليديتها في التصوير والمعالجة والتوليف، من دون تناسي الأداء الاحترافي العادي للممثلين، علماً أن بوعجيلة ودوبوز وزيم يمثّلون أيضاً في "خارجون على القانون".
اقــرأ أيضاً
يمكن القول إن اختيار الفيلمين هذين في مهرجان كان سياسي، أكثر مما هو سينمائي، خصوصاً أن "خارجون على القانون" يفشل تجارياً في عرضه الفرنسي، ويثير سجالات تاريخية وثقافية وسياسية. مع هذا، فإن الارتكاز إلى أهميته ضرورية، لأنه يعيد إحياء تفاصيل مجزرة "سطيف" الجزائرية، التي يرتكبها المستعمر الفرنسي في 8 مايو/ أيار 1945، التي تفتح أبواب "الجحيم" على الفرنسيين، بعد خروج جزائريين كثيرين إلى شوارع باريس، للمطالبة باستقلال بلدهم. في 17 أكتوبر/ تشرين الأول 1961، تقع مجزرة بحق هؤلاء في عاصمة الثقافة والنور.
أما "بلديون"، فيُسلّط الضوء على مغاربة "يحاربون" إلى جانب المستعمِر الفرنسي في الحرب العالمية الثانية نفسها، ما يدفع لاحقاً إلى إعادة النظر، رسمياً، بوضعهم في فرنسا، هم الذين يُغيَّبون طويلاً في المشهد الفرنسي العام.
النماذج السابقة مرتبطة بمرحلة حديثة، تاريخياً، في "كانّ". نماذج تبقى مجرّد أمثلة تعكس أمرين اثنين: أولاً، أن السينما العربية قادرةٌ على أن تمتلك شروطها الإبداعية، وبراعتها في الاشتغال بلغة سينمائية متماسكة، غالباً. وثانياً، أن السينما العربية هذه، عندما تُحقِّق أفلامها بالطريقة الإبداعية تلك، تتمكّن من أن تحضر في المشهد الدولي، وتفرض أسئلتها وأشكالها وأنماط معالجاتها الدرامية.
تكريمات
لن يقف هذا كله حائلاً دون استعادة تاريخية، حينها، للحضور السينمائي العربي في المهرجان المصنف "فئة أولى" في العالم، وهو حضور يبدأ منذ منتصف القرن الـ 20 تقريباً. استعادة تميل إلى الاحتفاء والتكريم، وإلى تأكيد فعالية النتاج السينمائي وقدرته على بلوغ مراتب دولية مهمة، وإلى الإشادة ببراعة السينمائي العربي في "احتلال" مكانٍ ما في "كان"، وغيره من المهرجانات الدولية. والاستعادة هذه ـ إذ تكتفي بتأريخ الحضور، وتقديم لائحة بأبرز السينمائيين المشاركين، وبالأفلام المشاركة، وبالجوائز التي يحصدها هذا الفيلم أو ذاك ـ تنطلق من حس انفعالي "إيجابي" إزاء ما يعتبره صاحب الحس هذا "اعترافاً" دولياً بما تنجزه السينما العربية من عناوين، تتمكن من فرض نفسها في المشهد الدولي.
الاستعادة تلك لن تتضمّن قراءة نقدية لأفلامٍ تنال جوائز أساسية في المسابقة الرسمية، أو في إحدى المسابقات الأخرى، كـ "نظرة ما"، و"نصف شهر المخرجين". الاحتفاء بحضور وفوز عربيين يبقى تكريمياً، بينما المشاركة السينمائية العربية في الدورة الـ 69 (11 ـ 22 مايو/ أيار 2016) للمهرجان نفسه، تحرض على تحويل استعادة الحضور السينمائي العربي السابق في "كان"، إلى مقاربة نقدية لأفلام مشاركة وفائزة، في محاولة للبحث عن مدى ارتكازها على مفردات الاشتغال السينمائي البحت، وإن تكن المواضيع المختارة متنوّعة إلى درجة التناقض في ما بينها، أحياناً.
يمكن، بالتالي، التنبه إلى مسألة أخرى: إلى أي مدى تلتزم إدارة المهرجان بالسينما في اختياراتها؟ لن يكون السؤال اتهامياً، إذ تكشف غالبية الأفلام العربية (على الأقل)، المشاركة سابقاً، وجود نواة جوهرية للبناء السينمائي الجمالي، ومعاينة بصرية لمسائل متوغلة في البنيان الاجتماعي الثقافي العربي، واستعادة لمحطات تاريخية يرتبط العرب بها، مباشرة أو غير مباشرة.
تؤكد غالبية الخيارات العربية السابقة لـ "كان" وجود "مصداقية" في التعاطي مع النتاج البصري، انطلاقاً من مدى استجابته للشرط السينمائي أولاً، ومن جدية موضوعه ومعالجته ثانياً. ومع أن المهرجان يحاول، عبر خياراته، تسليط الضوء، أحياناً، على "مناطق جغرافية" محدّدة، عبر سينماها، لتبيان وقائع السياسة والاجتماع والسلوك والعيش اليومي فيها؛ إلا أن المحاولة تستند، غالباً، على حيوية السينما بحد ذاتها في استيفاء مقوماتها الجمالية والدرامية والفنية. ومع أن المهرجان نفسه "يخرق" نظامه الداخلي، كما هو حاصل في دورة عام 2016، بإشراك فيلم "البشمركة" للفرنسي الصهيوني برنار ـ هنري ليفي بعد أيام على بدء دورته الأخيرة؛ إلا أنه لم يرضخ ـ في المقابل ـ لضغوط يهودية متطرفة في مدينة "كان"، تطالبه بمنع عرض 13 دقيقة فقط من فيلم غير مكتمل للفلسطيني نصري حجّاج، بعنوان "ميونخ، قصّة فلسطينية".
نظرة
إلقاء نظرة نقدية على بعض أبرز الأفلام العربية، الفائزة بجوائز من "كان"، كفيل، إلى حد كبير، بتوضيح المسألة برمتها. فبعيداً من "حياة أديل" لكشيش، يمكن العودة إلى عام 1991، مع فوز "خارج الحياة" للّبناني الفرنسي الراحل مارون بغدادي (1950 ـ 1993) بجائزة لجنة تحكيم الدورة الـ 44، مناصفة مع "أوروبا" للدنماركي لارس فون ترير. بعد ذلك بـ 11 عاماً، يحصل الفلسطيني إيليا سليمان على الجائزة نفسها، وحده هذه المرة، عن "يد إلهية" (دورة عام 2002). قبله، يكرم المصري الراحل يوسف شاهين (1926 ـ 2008)، بمنحه جائزة العيد الخمسين للمهرجان (1997)، عن مجمل أعماله، هو المعتاد دائماً أن يشارك فيه بأفلام يصنعها بشغف حرفي كبير، وإن يحتاج بعضها ـ خصوصاً تلك المنجزة في الأعوام الأخيرة من حياته ـ إلى نقاش نقدي آخر.
المصري يسري نصر الله لن يبقى خارج كان أيضاً. ففي عام 2012، يتمّ اختيار "بعد الموقعة" للمسابقة الرسمية، علماً أن تعليقات جمة تتناول، حينها، "الجانب السياسي" البحت في عملية الاختيار، إذ ينجز الفيلم بعد أشهر قليلة على اعتداء "بلطجية" الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك، في 2 فبراير/ شباط 2011، على المتظاهرين ضده، فيما يُعرف بـ "موقعة الجمل" (هذه نواة الحبكة الدرامية للفيلم). الاختيار سياسي؟ ربما. لكن الفيلم ـ بصرف النظر عن أهميته في محاولة تأريخ اللحظة تلك سينمائياً ـ يبدو متسرعاً في قراءتها (اللحظة)، عبر فيلم روائي لن يكون، جمالياً وفنياً ودرامياً، بالمستوى الإبداعي الرائع لأفلام أخرى له، كـ "سرقات صيفية" (1988) و"مرسيدس" (1993) و"صبيان وبنات" (1995) و"المدينة" (1999)، وغيرها. وهذا على نقيض الفيلم القصير "داخلي/ خارجي"، المشارك به في المهرجان أيضاً، من خلال فيلم جماعي لـ 10 مخرجين مصريين بعنوان "18 يوم"، تناولوا عبر 10 أفلام قصيرة لهم بعض ملامح "ثورة 25 يناير" (2011). الفيلم الجماعي هذا، إذ يعرض للمرة الأولى في دورة عام 2011 لـ كان (ما يعني "احتمال" وجود سبب "سياسي" أيضاً وراء الاختيار)، لن يلغي متانة الحبكة الدرامية في مقطع نصر الله في سرد الحكاية (زوجة ترغب في النزول إلى الشارع، وزوجها يرفض ذلك، قبل اقتناعه بحقّها في التعبير عن نفسها ورأيها، وبحق المصريين في الانخراط في حراك سلمي ضد الطاغية)، وفي الاشتغال الدرامي والجمالي، وفي قراءة حالة مصرية واقعية في ظل الحراك الشعبي، بلغة سينمائية متماسكة، تتلاعب ـ بصرياً وفنياً وجمالياً ـ على ثنائية الداخل والخارج، في النفس والروح والمكان والتساؤلات والعلاقات.
جحيم الواقع
استناداً إلى قصة واقعية تجري فصولها في عام 1987، بطلها صحافي فرنسي يدعى روجيه أوك (1956 ـ 2014)، يقدم مارون بغدادي "خارج الحياة"، مستفيداً في بنائه الحكائي من تجارب غربيين آخرين يخطفون، هم أيضاً، في بيروت، في ثمانينيات الحرب الأهلية (1975 ـ 1990) تحديداً. لن يكون الفيلم حكماً مسبقاً، لا إيجابياً ولا سلبياً، ولا "مع" الضحية ولا "ضد" الجلاد. الحبكة في مكان آخر تماماً، تنطلق من تساؤلات عامة: أيمكن للضحية أن تتصالح مع الجلاد، بعد خروجها من الاعتقال، أو أثناءه؟ كيف يمكن تحديد الحد الفاصل، في عملية الخطف بحد ذاتها، بين السياسي ـ الثقافي ـ الإيديولوجي، والإنساني؟ هل الخطف، أساساً، يعي معنى الضحية البريئة، أو أن الوعي، هنا، "مطلوب" و"ضروري"، ويتم إدخاله في لعبة مصالح بحتة؟ تميل الإجابة إلى هذا كله، لأن الفيلم مبني على سرد شفاف لعلاقة تنشأ بين الصحافي المخطوف باتريك بيرو (إيبوليت جيراردو) وخاطفيه. علماً أن السرد مغلف بحساسية سينمائية، مرتكزة على توليف يتكامل والإيقاع المتوازن بين خصوصية العلاقة تلك، والمناخ العام خارج أسوار الاعتقال، وإنْ لم يظهر الخارج كثيراً، من دون تناسي سلاسة السرد الدرامي، التي لن تخفي عمق المعالجة الإنسانية للعلاقة الملتبسة تلك.
"يد إلهية" مختلف تماماً. لغته السينمائية أمتن وأجمل في متابعتها وقائع العيش الفردي في ظل الاحتلال، بعيداً عن خطابية المواجهة والنضال. اللغة نفسها تُستخدم، بحرفية واضحة، في تفكيك البُنى الاجتماعية والإنسانية والسلوكية في الاجتماع الفلسطيني، المقيم في ظل الاحتلال الإسرائيلي الساعي إلى تفكيك الجغرافيا ونسيج العلاقات المختلفة بين الفلسطينيين. اللغة نفسها أيضاً، المرتكزة على متتاليات سينمائية أشبه بلوحات فنية ملونة بحكايات فردية مفتوحة على وقائع الحال في فلسطين المحتلة، تتوغل في أعماق البيئة الفلسطينية، كاشفة مواجعها وأحلامها ومواجهاتها الصامتة والسلمية والحادة ـ في آن واحد ـ في سخريتها ونزقها ضد المحتل، كما ضد الفرد الفلسطيني المستكين، غالباً، إلى تقاليد عيشه.
فيلمان يغوصان في جحيم الواقع الإنساني الفردي، المفتوح على جرح الجماعة في مواجهة تحديات العيش اليومي على تخوم الموت والخراب، كما على تماسٍ حيويّ مع أمل الانتصار، للذات الفردية على الأقل، في أحلامها، وإنْ تكن الأحلام مُعلّقةً.
التباسات
في عام 2009، يشارك الروائي الثالث لسليمان نفسه، "الزمن الباقي"، في "كان" ضمن "الاختيار الرسمي". لن يفوز الفيلم بأي جائزة، لكنه يؤكد، مجدداً، حرفية سينمائي يستمر في التنقيب في البيئة الفلسطينية، انطلاقاً من ثنائية الاحتلال الإسرائيلي والاجتماع الفلسطيني. العودة إلى نكبة عام 1948 مردها رغبة في سرد تاريخ العائلة، وإنْ بتوار سينمائي بديع خلف الصورة ولغتها أولاً، وخلف التاريخ والحاضر الجماعيين، ودهاليزهما ومتاهاتهما وأسئلتهما المعلقة ثانياً. المحطات التاريخية عديدة، وقسوة الاحتلال حاضرة، والتخبط الفلسطيني ـ اجتماعياً وسياسياً وثقافياً وإنسانياً ـ موجع، وإن يتمّ تغليفه بنسق ساخر.
بعد ذلك بعام واحد فقط، يتمّ اختيار "خارجون على القانون" للفرنسي الجزائري الأصل رشيد بوشارب للمسابقة الرسمية في دورة عام 2010، علماً أن فيلمه السابق "بلديون" ينال جائزة التمثيل في دورة عام 2006، التي يحصل عليها الممثلون الأربعة سامي بوعجيلة وجمال دوبوز وسامي ناسيري ورشدي زيم. سينمائياً، لن يكون الفيلمان عاديين، لكنهما لن يبلغا مرتبة باهرة من الإبداع البصري. متانة الحرفية واضحة، لكن النواة الدرامية أقرب إلى تأريخ لحظات "منسية" في التاريخ المغاربي، في ظل الاستعمار الفرنسي، خصوصاً أثناء الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945). أهميتهما الأساسية كامنة في تبيان حقائق غير متداولة رسمياً، لكن السينما لم تخرج من تقليديتها في التصوير والمعالجة والتوليف، من دون تناسي الأداء الاحترافي العادي للممثلين، علماً أن بوعجيلة ودوبوز وزيم يمثّلون أيضاً في "خارجون على القانون".
يمكن القول إن اختيار الفيلمين هذين في مهرجان كان سياسي، أكثر مما هو سينمائي، خصوصاً أن "خارجون على القانون" يفشل تجارياً في عرضه الفرنسي، ويثير سجالات تاريخية وثقافية وسياسية. مع هذا، فإن الارتكاز إلى أهميته ضرورية، لأنه يعيد إحياء تفاصيل مجزرة "سطيف" الجزائرية، التي يرتكبها المستعمر الفرنسي في 8 مايو/ أيار 1945، التي تفتح أبواب "الجحيم" على الفرنسيين، بعد خروج جزائريين كثيرين إلى شوارع باريس، للمطالبة باستقلال بلدهم. في 17 أكتوبر/ تشرين الأول 1961، تقع مجزرة بحق هؤلاء في عاصمة الثقافة والنور.
أما "بلديون"، فيُسلّط الضوء على مغاربة "يحاربون" إلى جانب المستعمِر الفرنسي في الحرب العالمية الثانية نفسها، ما يدفع لاحقاً إلى إعادة النظر، رسمياً، بوضعهم في فرنسا، هم الذين يُغيَّبون طويلاً في المشهد الفرنسي العام.
النماذج السابقة مرتبطة بمرحلة حديثة، تاريخياً، في "كانّ". نماذج تبقى مجرّد أمثلة تعكس أمرين اثنين: أولاً، أن السينما العربية قادرةٌ على أن تمتلك شروطها الإبداعية، وبراعتها في الاشتغال بلغة سينمائية متماسكة، غالباً. وثانياً، أن السينما العربية هذه، عندما تُحقِّق أفلامها بالطريقة الإبداعية تلك، تتمكّن من أن تحضر في المشهد الدولي، وتفرض أسئلتها وأشكالها وأنماط معالجاتها الدرامية.