عذابات عشاق ... وموت فيه النجاة

12 يوليو 2015
(بيروت: منشورات دار الجمل، 2014)
+ الخط -
لعلّ إحدى الشواغل الكثيرة التي ستظلّ بعد الانتهاء من قراءة رواية الإيطالي إرّي دي لوكا (1950)، "ثلاثة جياد"، هي التفكير في قدرة الروائي العالية على التنقل بين الماضي والحاضر، والتبديل بينهما بسلاسة كما يفعل أحدنا بأوراق اللعب.

فالعمل الذي نشرت دار الجمل نسخته العربية هذا العام بترجمة نزار آغري في مئة وثمانية وعشرين صفحة، تتداخل فيه الذاكرة بالواقع، الوعي باللاوعي. ليس هذا فقط، بل يمتدّ امّحاء الحدود إلى المشاعر، حيث يلتقي الحب والكراهية، والرغبة والنفور، والجبن والشجاعة، دون أن نكون قادرين تماماً على تحديد أين يبدأ الأول، وأين ينتهي الآخر.

تحكي الرواية عن إيطاليّ خمسيني يعمل بستانياً في بلاده التي عاد إليها أخيراً بعد رحلة طويلة ومليئة بالعذابات في الأرجنتين أثناء الحكم الديكتاتوري بين عامي 1976-1982، حيث اضطر بطل الرواية، الذي لا يمنحه دي لوكا اسماً هنا، إلى قتل شخص وقضاء وقت طويل كشريد مطارد لا يكاد يركن لمكان حتى يغادره تحت الشعور بالخوف "يقتلوننا جميعاً نحن الذين ننتمي للتمرد. نقفز من مخبأ إلى آخر. تنبعث منّا رائحة الخوف في الشارع، تتبع الكلاب الرائحة وتعدو خلفنا. هكذا هي أميركا الجنوبية".

تبدأ الرواية في إيطاليا، حيث يفترض بالبستانيّ النجاة، وقد ترك كل شيء خلفه هناك في بيونيس آيريس الدامية. لذا نراه يمعنُ في حياته الرتيبة، ينشغل بالتفاصيل المملّة باستمتاع بالغ، وكأنه يجرّب الحياة الآمنة لأول مرة. لهذا لا يجد غضاضة في أن يعيش على هامش الأشياء، بين أشجاره وكتبه المستعملة التي تعمّق من شعوره بالانزواء الذي يبحث عنه.

لكن ثمة ما ينغّص عليه كل ذلك؛ فذاكرته تختزن كل المآسي التي مرّ بها، وكأن مطارديه زرعوها في رأسه بعد حقنها بكل المنغصات "أفكّر بالجنوب حيث الأيام مليئة بالمشاكل. كان الموت يخيّم علينا وينتزع بعضنا من بعض، وينقضّ على الألوف من الأحياء ويضعهم في الأكياس. كان الحبّ آنذاك يتجسّد في عناقات حارة، وخلف كل عناق يقبع وداع سرّي، صامت. كان غريباً أن يعرف الجميع أن الموت يتربص بهم، ومع هذا لم يكن أحد يودّع أحداً".

في الأثناء، يلتقي البستانيّ بليلى التي تعيش مثله اغتراباً لكن بصورة أخرى. فالفتاة التي اضطرت لبيع جسدها، لم تعد تشعر به، وكأن روحها تسكن جسداً لا يخصّها لفرط ما أصبح ملك الآخرين. تقع ليلى في غرام البستانيّ، فينشأ بينهما ما يشبه حبّ الغرباء الذين يلتقون في أرض محايدة، لا يميّزها شيء غير درجة الأمان التي توفّرها. لكنها في المقابل لا تكفّ تبعث الشعور بأن كل شيء مؤقت وطارئ وعابر. "حين تأتي بشجرة من مزرعة كي تضع بذورها في أرض مجهولة تبدو مرتبكة مثل عامل ريفي في يومه الأول في المصنع".

ومع هذا، فالحبّ كان مخدراً جيداً لكليهما. يقول البستاني: "لقد قضيت عمري في معاينة الأرض والماء والغيوم والجدران والمعامل أكثر من معاينة الوجوه. حين أفكّر في ليلى لا أتذكر على الإطلاق أنني رأيت وجهاً كاملاً لامرأة". "يمضي المرء إلى لقاء الحب ببطاقة سفر ذهاب فقط، بعد ذلك لا يمكن الرجوع إلى العش الآمن". وحين يواجهها بقلقه "تملكين الرجال في راحة يدك"، تجيبه ليلى دون تفكير "ولكني أحب راحة يدك أنت". ولهذا تعترف له "مهنتي أن أجعل الرجال يتكلمون، أن أخرج الأخبار من رؤوسهم. معك أصغيت من دون هدف. أصغيت وتعلّمت أن أحب الحياة المكتوبة على وجهك".

ينطلق الإثنان معاً، كلٌ يحاول التحرر بطريقته؛ البستاني من ذاكرته، والفتاة من عبودية جسدها للآخرين، لكنهما لا ينتبهان إلى أنّ كل واحد منهما بهذه الطريقة كان يعيش في زمن مختلف، فالبستاني غارق في ماضيه، وهو يحاول الهرب منه إلى الحاضر، بينما الفتاة تودّ العودة إلى ماضيها الزاهي حين كانت تعمل طبيبة أسنان، قبل أن يقتلعها الحاضر بكل قسوته.

بقدر ما حاولت ليلى مساعدة البستانيّ في النجاة من ماضيه، كان يتورّط فيه أكثر، وقد غدا يتذكّر دوفورا، الفتاة التي أحبّها في الأرجنتين وهو معلّق بين السماء والأرض يتسلّق شواهق الجبال. الفتاة التي انتُزعت من بين يديه دون أن يكون قادراً على تخليصها "لقد عاشت من أجلي وماتت كي تمنح عينيها للأسماك". يكاد البستانيّ يستولي عليه اليأس "النجاة لا تعني سوى الغوص أكثر في المصيدة، وليس الخروج منها. النجاة تكمن في الموت".

لكنّ المفارقة التي يُدهشنا بها دي لوكا مجدداً هي لعبة تبادل الأدوار التي ينخرط فيها العاشقان، فالفتاة تُصبح مطاردة ومهددة بالقتل لمجرد رغبتها في التحرر "لا يمكن الانسحاب من هذه المهنة. حين تعجز عن القيام بعملك يجب أن تهرب أو تموت". بينما يكون مطلوباً من البستانيّ أن يسعى لتحرير الفتاة وألا يعيد تجربته المريرة مع ديفورا التي تركها تموت، وكأنه أخيراً وجد الطريقة التي سينجو بها من ماضيه عبر العودة إليه والتصرف بشكل مختلف.

على هامش النص ثمة اتكاء جميل على علاقة البستانيّ بالكتب، فهو "يحبّ الكتب المستعملة لأن كل نسخة تملك أرواحاً عديدة". "هذا ما يجب أن تفعله الكتب، أن تحمل هي الإنسان لا أن تجعل الإنسان يحملها. أن تخفف عبء الأيام عن كاهله لا أن تزيد إلى أعبائه ثقل صفحاتها".
إذن مجدداً يواصل إرّي دي لوكا عبر هذا العمل انحيازه للمهمّشين، في اتساقّ مع حياته التي كرّسها للنضال في هذا الجانب.

(روائي إرتري)
المساهمون