يُنهي التلاميذ دراستهم الثانوية في لبنان، وهم يملكون معلومات كثيرة قد تشكل عبئاً عليهم، خصوصاً إذا فشلت في الوصول إلى أهدافها المعلنة. أحد الأمثلة تبرزه صورة العدوّ والصديق في كتاب التربية الوطنية
كثيرة هي الرسائل التربوية التي يتلقاها الأطفال والناشئة في لبنان، ولا تقتصر أبداً على تربية أسرية أو مدرسية، فالمسألة تمتد إلى أماكن أبعد في ظلّ عالم الإنترنت وما فيه. وبينما يمكن التلميذ في أيّ وقت التزود بما شاء من معلومات عن قضية من القضايا، ولا سيما في المواد الاجتماعية والإنسانية، من تلك المصادر المفتوحة عبر الشبكة العالمية، فإنّ الكتب المدرسية في المقابل تبدو ضعيفة في مضمونها في كثير من النواحي.
لكنّ المشكلة في لبنان لا تقتصر على ذلك، بل تمتد إلى رواية الأحداث وتحديد المفاهيم. وبينما يُعرف عن كتاب التاريخ أنّه غير موحَّد تبعاً لرواية كلّ فريق مذهبي وسياسي لأحداث تأسيس البلاد وما قبلها وما بعدها، فإنّ كتاب التربية الوطنية والتنشئة المدنية، اتُّفق على توحيده، واعتُمد في المدارس الرسمية والخاصة، منذ بداية الألفية الحالية. وهكذا، يبدو الكتاب الذي يتلقى دروسه ورسائله أكثر من مليون تلميذ في لبنان، ضعيفاً لناحية تحديد مفاهيم أساسية سنأخذ مثالاً عليها، في تحديد صورة العدوّ والصديق، في كتب التربية الوطنية والتنشئة المدنية للصفوف الثانوية الثلاثة.
أعداء
في البداية، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الدستور الحالي للبنان، متمثلاً باتفاق الطائف (1989) ينص على أنّ إسرائيل هي العدوّ الوحيد للبنان، فيما يشدد في فصله الرابع والأخير على أنّ لبنان "تربطه علاقات أخوية صادقة بجميع الدول العربية، وتقوم بينه وبين سورية علاقات مميزة تستمد قوتها من جذور القربى والتاريخ والمصالح الأخوية المشتركة". للاتفاق طبعاً ظروفه التاريخية، إذ جاء في ظلّ أوضاع سياسية كان للنظام السوري خلالها دور كبير جداً على الساحة اللبنانية.
لكنّ كتب التربية الوطنية تبدو خجولة في تبيان هذين المفهومين، إذ إنّ كتاب الثانوي الأول (الصف العاشر)، مثلاً، لا يسمّي إسرائيل "عدوّاً"، بل يعتبرها فقط قوة "احتلال"، بالإضافة إلى ذكره إسرائيل "دولة" في أحد دروسه، بالرغم من عدم الاعتراف الرسمي بها. مع ذلك، يبيّن "حق الشعب اللبناني وواجبه في التصدي للاحتلال الإسرائيلي"، كذلك يظهر المجزرة التي ارتكبتها إسرائيل في قانا عام 1996، وتهجير الجنوبيين، بالإضافة إلى صورة تحت عنوان "ثورة الحجارة في فلسطين".
لكن في الصف الثانوي الثاني (الحادي عشر) تحدَّد إسرائيل كعدو، وإن مع اعتبارها عدواً مشتركاً للوطن العربي عموماً: "تعاون العرب يحصنهم ضد العدو الإسرائيلي المحتل أرضهم في فلسطين والجولان وجنوب لبنان والبقاع الغربي". كذلك، تحدد في الصف الثالث الثانوي (الثاني عشر) في الدرس المخصص للجيش اللبناني: "وعاد الجيش قوة منظمة ومنضبطة تتكون من وحدات تضمّ عسكريين من مختلف المناطق والانتماءات وتنفذ مهامها في جميع المناطق حيث تدعو الحاجة، ولا سيما في مواجهة إسرائيل، وهي العدو الذي يحتل الأرض".
أصدقاء
كما في مفهوم العدو، فإنّ مفهوم الصديق غائب في معظم الأحيان، ففي الثانوي الأول لا يظهر أبداً. لكنّه في الثانوي الثاني يحتل مساحة جيدة، إذ يتحدث المحور الرابع بكامله عن "التعاون والتضامن والطموحات العربية"، وفيه يربط اسم لبنان بكثير من مفاهيم التضامن العربي، من قبيل، الأمة العربية، والأخوة العربية، والعمل العربي المشترك، والتعاون العربي، والسوق العربية المشتركة، والواجب العربي للتعاون على إنقاذ لبنان ووقف تدهوره الأمني، والمقاطعة العربية لإسرائيل. كذلك يستعرض الاتفاقات الثنائية للبنان مع الدول العربية، ولا سيما مع سورية: "معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق بين لبنان وسورية (1991)، والاتفاق الجمركي اللبناني - السوري (1999)، والاتفاق الخاص بالثقافة والتعليم العالي بين لبنان ومصر (1996)".
ويشدد المحور على ضرورات التضامن العربي، مشيراً في إحدى النقاط إلى أنّ "الانفراد في التعامل مع قضايا الحرب والسلم يشتت القوى العربية، ويسمح للأعداء (لا يسمّيهم) بتمرير خططهم، ويُحدث نزاعات عربية - عربية. وتتولد من سياسة الانفراد اتفاقيات منفردة لا تلبي المصالح والحقوق العربية، مثل اتفاقيتي كامب ديفيد، وأوسلو". وفي نقطة أخرى يذكر أنّ "سياسة الانفراد تؤدي إلى تعدد المسارات والخيارات وضعف المواجهة العربية للعدوّ (من دون تسميته أيضاً)، فتحرم العرب وزنَ عامل التنسيق والتضامن فيما بينهم، واستعمال ثقلهم العددي والعسكري والاقتصادي لفرض الاعتراف بحقوقهم".
غياب
ولمزيد من التحليل، يتحدث المتخصص في علم الاجتماع التربوي، محمود ديب، إلى "العربي الجديد" حول كتاب التربية الوطنية، ومفهومي العدو والصديق بالذات، خصوصاً أنّه أجرى بحثاً في هذا المجال. في البداية، يلاحظ "عدم معالجة كتب التربية الوطنية والتنشئة المدنية قضية الصديق والعدو بطريقة علمية، تهدف إلى بناء المواطن الواعي فيما بعد، القادر على التشخيص الواضح للصديق والعدو، والتمييز بينهما". كذلك فإنّ "ذكر العدو الإسرائيلي خجول"، وهناك تجاهل لاعتداءاته المتواصلة على الوطن العربي: "لا شاهد للعدو في يومنا هذا أوضح من إسرائيل". ويلاحظ أيضاً أنّ هناك "اهتماماً بالجانب النظري فقط في الكتب، وعدم التركيز على الجانب العملي، ما ينعكس سلباً على غاية التربية التي ترتبط مباشرة بالسلوك".
يشارك ديب بعض نتائج بحثه مع "العربي الجديد"، ويبيّن بخصوص كتب التربية الوطنية والتنشئة الوطنية، في مختلف المراحل المدرسية، أنّ:
- الغلاف الخارجي لجميع الحلقات (السنوات المدرسية) لا يحتوي على الإشارة إلى الصديق والعدو بوضوح، فهناك فقط بعض الرسومات لجنود وهي مبهمة وغير واضحة الإشارات.
- المقدمة العامة لكتب التربية، التي تشترك فيها بين جميع الحلقات، أشارت إلى أنّ أحد الأهداف التي يسعى إليها كتاب التربية الوطنية والتنشئة المدنية، والتي ترتبط بموضوع البحث هي "تعزيز الانتماء والانصهار الوطنيين" وهما الميزان الأساس في التمييز بين الصديق والعدو، وفي الوقت نفسه فإنّ المقدمة لم تشر إلى قضية العدو، بالرغم من أنّ الانتماء إلى الوطن والتمسك بالهوية الوطنية يستلزمان الدفاع عنهما من محاولة الاعتداء عليهما، وهو ما يخص الحديث عن العدو مباشرة.
- لا تتضمن الدروس حديثاً مباشراً حول مسألة الصديق والعدو ومعالجتها. وهكذا، تتناول مفهوم الصديق بطريقة غير مباشرة كالحديث عن: تعزيز الانتماء والهوية الوطنية، وانتماء لبنان إلى الأمة العربية. أما بالنسبة إلى العدو، فقد تحدثت عنه، إما عبر ذكره بطريقة عمومية، أي من دون أن تحدد هويته مباشرة، أو من خلال ذكر العدو بأنّه إسرائيل، لكن، بطريقة غير بارزة إلّا ما ندر، فيغيب تماماً عن عناوين المحاور لجميع الحلقات ذكر مسألة العدو، وحتى ضمن دروس المحاور لا ذكر محدداً للعدو إلّا في درسين فقط.
الهوية الوطنية
يتابع ديب حديثه إلى "العربي الجديد"، قائلاً: في المحصلة، إنّ "تضمين مسألة الصديق والعدو في كتاب التربية الوطنية والتنشئة المدنية لا يفي بالغرض، لأنّ الحديث عن العدو بشكل مبهم أو غير بارز قد يضرّ بالأهداف التعليمية المقصودة، خصوصاً لجهة تربية الأجيال على مواجهة العدو، بالإضافة إلى أنّ البعد التربوي يستلزم ترافق الجانب النظري مع الجانب العملي وعدم وجود هوة بينهما كما هو حاصل في كتاب التربية الوطنية لجميع الحلقات من دون استثناء، وفي جميع المواضيع، ومن بينها الصديق والعدو". يفسر: "صحيح أنّ الجانب النظري مهم، لكنّ أهميته تكمن في أنّه مقدمة أساسية للجانب العملي، لأنّ منهج التربية الرشيد لا توجد فيه تلك الفجوة المعهودة بين العلم والعمل، أو بين النظرية والتطبيق".
ويختم: "الهوية الوطنية تلعب دوراً محورياً للبناء عليها في معرفة وتمييز الصديق من العدو، فكلّ من يحاول الاعتداء على الهوية الوطنية أو يحاول طمسها أو إلغاءها هو العدو، وينبغي الوقوف في وجهه ومحاولة صده. وفي الوقت نفسه، إنّ من يسعى إلى تعزيز الهوية الوطنية ودعمها بشتى السبل، هو الصديق".
في تحديد ديب الأخير للمفهومين عود على بدء في الخلاف اللبناني المتأصل حول الرواية التاريخية المنعكسة على الحاضر، حول كثير من القضايا الجدالية التي تدخل في إطار المذهبية والحزبية، ومن بينها هوية العدو وهوية الصديق.