(ودَعْ كلَّ صوتٍ غيْرَ صَوْتِي فإنني ** أنا الطّائرُ المحكيُّ والآخَر الصدى - المتنبي)
يحفل النقد العربي القديم باصطلاحات ومفاهيم متنوعة تخصّ الشعر والشعراء أساساً، لعلّ من أطرفها تلك التي أُطلِقت على بعضهم بكونهم "عبيدَ الشعر"، اعتباراً لعنايتهم المفرطة بتنقيح قصائدهم، وبتنخيلها قَبْل إخراجها في حلة لائقة. واشتهر من بين هؤلاء زُهير بن أبي سلمى والحطيئة وأوس بن حجر. ويُمكن أن نفهم من هذا الإطلاق أيضاً ارتهانَ هؤلاء الشعراء إلى الشعر، وانقطاعهم لخدمته، فكان لهم التجويد فيه، ولو أن التنقيح استغرق منهم، بالطبع، وقتاً كان يُمكن أن يُصرف في إغناء رصيدهم الشعري.
استناداً إلى هذه المقدمة، وصدوراً عن الاقتناع بأن قضايا الترجمة من قضايا الأدب، يكون بوسعنا أن نتساءل إن كان للترجمة عبيد على غرار الشِّعر؟
لنُذكِّر بأن الأصل في الترجمة الإبانة والتعريف وإسماعُ المترجِمِ صوتَ الآخر، ويُضاف إليها في السياق الأدبي إسباغ المترجِمِ الوسيطِ البهاءَ كلمةً وعبارةً على الكلام الجميل الذي يُفترض أن يكون عليه النص الأصل، فتَنْقلب العملية إلى فعل إبداعيّ متفرِّد تعجز الترجمة الآلية عن مجاراته، ويغدو معها المترجِم شاعرَ الشاعرِ أو كاتبَ الكاتب، مما يُمكن أن ينفيَ عنها العبوديّة بصفتها قولاً إبداعياً على قول.
لذلك، ليس ضرورياً أن تَستنسخ الترجمةُ حرفياً مشاكلَ الأدب وقضاياه، في هذا الباب، فلنا أن نقارب الموضوع من زاوية مختلفة؛ لأن مسألة العبودية في الترجمة ليس لزاماً حصرُها في السّهر على التجويد فيها، بالتزام المعنى وعدم تحريفه، واحترام المبنى بتفادي إغفاله، نظراً لجوهريّتهما في العمل الأدبي الأصل، ولوجوب إيصالهما، إذ يُمكن للعبودية أن تُثار من زوايا مختلفة تماماً عما في الشعر.
ويحفل تاريخ الترجمة بأمثلة عن أدباء أفلحوا في خلق توازن بين مجالات عطائهم الكتابي، فتجدهم يجترحون النقد والتحقيق والإبداع والترجمة معاً، ولعلّ أبرز مثال إحسان عباس، الذي كانت الترجمة لديه تتكامل مع مجالات اشتغاله الأخرى، لاندراجها عنده ضمن مشروعه الأدبي والفكري، بحيث كان الكتابُ المترْجَم يخدم مَبحَثاً أدبياً وأفقاً ثقافياً معيَّناً.
وضمن التصوُّر نفسِه يُمكننا النَّظر إلى المشروع الترجمي لجابر عصفور، الذي اجترح فنوناً أدبية متنوِّعة، وهو مشروع أسَّس له قبله أستاذُه عميدُ الأدب العربي طه حسين، الذي كان قد خطَّط لنهضة أدبية وفكرية تُشكلّ الترجمة ثالثة أثافيّها؛ والأُثْفيّتان الأخرَيان هما: تحقيق التراث والتأليف، بحيث إنّ طه حسين نفسَه تقيَّد بما دبَّر له، لأنه بدوره ترجم أعمالاً كثيرة إغريقية ومعاصرة له. ولا يفوتنا، مثلاً، أن نَعُدّ ترجمة محمد العمري ومحمد الوالي لكتاب جُونْ كُوهِين "بنية اللغة الشعرية" عن الفرنسية، الذي لا تزال آثاره ممتدّة في أعمالهما وأبحاث طلبتهما، وفي الدرس الجامعي. كلُّ هؤلاء يستحيل اعتبارهم عبيدا للترجمة.
ويُمكننا التفكيرُ في "عبيد الترجمة" بشكل مُبسَّط، باستحضار أصوات إبداعية كَبَتَها هذا الجنسُ الأدبي المتفرِّد -حسب الفيلسوف الإسباني أورتيغا إِغَاسيتْ- الذي بإغراءاته المادية يُدِرّ على مُزاوليه أكثرَ مما يستفيد منه المؤلّفون أنفسُهم.
تنصرف هذه الطبقة من المترجمين بكل طاقتها مُنساقة وراءَ المال، فتُجهِض ذاتَها الخلّاقة بإفراغها للجانب الإبداعي فيها في نصوص الآخرين، واختيارِها أن تكون صدى عوض صوتٍ، بحيث تُتَناسى من قِبل القُرّاء، فيُتخَلَّى عن نعتة مُزاوليها بالشعراء أو النقاد أو الروائيّين، وغيرها، وإنما يُكتَفى بوسْمهم بالمترجِم، أي بالتابع الذي يرتهن وجودُه إلى آخر، مثلما أورد والتر بنيامين، لأن صوتَ المترجِم يَدين للكاتب الأول ويكون عالة عليه.
يثير وجود هذه الطبقة من المترجمين، إذا صَّح هذا التصنيف، اهتمامَ الدارس والمتابِع، ويدعونا إلى تحريضها على الخروج من دائرة الصدى.