عبود الجابري: مدن نسيت أبناءها وانتحرت

06 يوليو 2015
+ الخط -

لم يشكّل الموتُ في ما أصدره الشاعر العراقي عبّود الجابري (1963) هاجساً، كما يشكّله في مجموعته "فكرة اليد الواحدة" الصادرة حديثاً عن "دار فضاءات"؛ إذ لا تكاد تخلو قصيدة من هذه المفردة.

واللافت، أن صاحب "فهرس الأخطاء"، بينما يحاول أن يغيّب المفردة عن نصوصه، ساعياً إلى الاحتفاء بتفاصيل يومه الطويل، تحضر وتفرض نفسها، وكأنّها تدخل من الباب الخلفيّ للنص.

يقول الجابري، في حديثه لـ"العربي الجديد": "أسعى منذ زمنٍ إلى تغييب المفردة حتّى لا تتحوّل إلى نبوءةٍ ساعة موتي، لكنّها تتسرّب من دون إرادة مني". وما يزيد رسوخها، كما يوضّح، أنّها تحضر في مفاصل رئيسة في ثيمات قصائده "الأمر الذي يجعلني أتعاطف معها وأغضّ الطرف عنها".

ورغم محاولاته أن يمنح نصوصه رفاهيةً، عبر التخلّي عن هذه المفردة، والاحتفاء أكثر بـ"أخطاء هذا المساء"، إلّا أنّها تظهر له "ربّما بسبب شيوع المجانية في إزهاق الأرواح دونما سبب كافٍ لإقناع الشهداء بضرورة اقتطاع ما تبقى من حياتهم إرضاء لغريزة القتلة، لا سيما في الأعوام الثلاثة الأخيرة"، كما يقول.

في المجموعة أيضاً، يحضر النّوم بكثرة، وكأنّه موتٌ أصغر، يخلّص الشاعر من يقظةٍ غير مجدية، ويمرّنه على الموت، إذ يظلّ باستطاعته أن يعود إلى الحياة متى يشاء: "أجد فيه كذبةً تنطلي على النائم أسوة بمن يراقبون نومه. يكفيك أن تضع ذراعك على عينيك ليعتقد الآخرون أنك نائم، ويشفقون عليك كمن يبكي ميتاً".

هكذا، يسعى الجابري باحثاً عن "ذرائع للنوم"، لكنّه يدخل من خلاله إلى عوالم موازية لواقعٍ وذكريات لا تقلّ مرارةً: "في النوم، تستطيع أن تستعيض عن الخرفان التي كنت تعدها إبان طفولتك بأناس ومدن وطغاة ثم تقوم بشتمهم أو منادمتهم دونما ضرر".

منذ مجموعته السابقة، "متحف النوم"، بدأت تتضح في قصائد الجابري ملامح الغنائيّة، إذ كانت مجموعاته الأخرى أميَل إلى التأمّل الذهني في الموجودات، لكن في "فكرة اليد الواحدة" نجد أنّ المعنى نفسه غنائي. هل تحتمل قصيدة النثر هذه الغنائية؟ يجيب الجابري: "قصيدة النثر تحتمل كلَّ ما يمكن للأجناس الكتابية الأخرى أن تحتمله، كما أنّ الغنائية ليست حكراً على شكل شعري دون سواه. لقد انكفأ إلى الغنائية كثير من الشعراء الذين عابوها في بداياتهم، لكنهم لم يجدوا لها بديلاً حين ألمّت بهم حوادث ألزمتهم العودة إلى ذواتهم حنيناً وبكاءً لم يجدوا له متسعاً في ذهنية القصيدة".

ويضيف: "إلى جانب هذا، فأنا ولدتُ في مدينة النجف، حيث الإيقاع سيّد في شوارعها. وحين أعلنت انحيازي المطلق إلى قصيدة النثر في بداية التسعينيات، لم أفكر أن أشذّب روحي من الإيقاع الذي ترسّب فيها من طفولتي".

في عام 1993، انتقل الجابري للعيش في مدينة عمّان، ككثير من الكتّاب والفنانين والمثقفين العراقيين، الذين تركوها لاحقاً؛ إلّا أنّه لم يغادرها. عن ارتباطه بهذه المدينة، وأثرها على تجربته، يقول: "كانت عمّان باب نجاة وحيد للعراقيين الذين فرّوا بجلودهم مطلع التسعينيات، لكنهم الآن يعدّون على أصابع اليد الواحدة". ويستطرد: "كانوا كمن يحتفل بنجاته من الموت، لكنهم ما إن شعروا بالأمان حتى رفعوا رؤوسهم وتطلّعوا إلى ما هو أبعد من عمّان، إلى عالم لا يسألهم عن دياناتهم أو مذاهبهم، ولا يسعى إلى تفتيش عقولهم".

إلّا أن للجابري وجهة نظرٍ أخرى: "شخصيّاً، أشعر بانصهار اجتماعي وثقافي ومهني هنا، فقد أمضيت ثلاثة وعشرين عاماً كنت فيها فاعلاً في تلك الجوانب برغبة مني ومن الآخرين الذين رأوا فيّ ما لم أره في نفسي؛ فمنحوني المحبة والحفاوة، فصار لي فيها من الأولاد خمسة ومن الكتب أربعة ومن المحبين ما لا أعرف. حسبُ ذلك سبباً لتشعر أنك ابن المدينة حتى في لحظات شرودها عنك؛ أسوةً ببقية المدن التي نسيت أبناءها وانتحرت".

دلالات
المساهمون