عبد الناصر وعامر.. ولعبة الديمقراطية

17 ديسمبر 2014
+ الخط -

في عام 1962، أصدر جمال عبد الناصر قراراً بتشكيل مجلس رئاسي، كان الهدف منه الحد من نفوذ عبد الحكيم عامر، وتقليص سلطاته، وقد تشكل المجلس، برئاسة عبد الناصر، وعضوية 11 عضواً، تسعة عسكريين واثنان مدنيان، وسرعان ما اتضح الهدف منه، بعدما أعد عبد الناصر مشروع قرار يسلب من عبد الحكيم عامر سلطة تعيين قادة الوحدات في القوات المسلحة، ويمنح السلطة للمجلس الرئاسي، وقد تعمّد عبد الناصر عدم حضور الجلسة التى ستناقش القرار، وتولى عبد اللطيف البغدادي رئاسة الجلسة بحكم أقدميته، واعترض  عامر على القرار، وطالب بتأجيل نظر مشروعه، إلى حين حضور عبدالناصر، لكن البغدادي أصر على مناقشة المشروع، وتم التصويت على مبدأ مناقشته، وجاءت النتيجة بموافقة ستة أعضاء ومعارضة خمسة، وتكررت النتيجة ثانية عند مناقشة الموافقة على مشروع القرار، ما آثار غضب عبد الحكيم عامر الذي انسحب من الجلسة، وقدم استقالته وتوجه إلى مرسى مطروح. وبعيداً عن التفاصيل التاريخية، أتوقف عند مضمون الاستقالة التى قدمها عامر لما تتضمنه من دلالة.

فقد تذكر عبد الحكيم عامر بعد عشر سنوات، وتقمص دور المنظر، وهو يرتدي ثوب الناصح الأمين، فطالب عبدالناصر أن يقوم التنظيم السياسي القادم، وهو يعني الاتحاد الاشتراكي الذي تأسس في العام نفسه (1962) بديلاً للتنظيم السابق، الاتحاد القومي، على الانتخابات في مراحله كافة، "أعتقد أن التنظيم السياسي القادم لكي يكون مثمراً، أو ناجحاً، يجب أن يبنى على الانتخابات من القاعدة إلى القمة، بما في ذلك اللجنة العليا للاتحاد، وبما في ذلك اللجنة التنفيذية العليا، وإن أتت اللجنة العليا بدون انتخابات حقيقية، فسيكون ذلك نقطة ضعف في التنظيم الديمقراطي للاتحاد، وإن ما يجب أن نسعى إليه هو تدعيم الروح الديمقراطية، بعد عشر سنوات من الثورة، والتي لا أتصور، بعد كل هذه الفترة وبعد أن صُفي الإقطاع، ورأس المال المستغل، ومنحتك الجماهير ثقتها من دون تحفظ، أن يكون هناك ما تخشاه من ممارسة الديمقراطية بالروح التى كتب بها الميثاق. وخصوصاً أن الملكيات الفردية الباقية، والقطاع الخاص، لا يشكلان أي خطر على نظام الدولة. كما أنه ليس هناك ما يمنع إطلاقاً انسجام هذه القطاعات مع النظام الاشتراكي".

ولا ينسى عامر فى ظل الروح الديمقراطية التى تلبسته فجأة، ومن دون مقدمات، التأكيد على حرية الصحافة، وتوفير الضمانات للعاملين بها "كذلك الأمر بالنسبة إلى الصحافة، فيجب أن تكون هناك ضمانات، تمكن الناس من كتابة آرائهم، وكذلك يمكن رؤساء التحرير، والمحررون من الكتابة من دون خوف أو تحفظ. وقد تكون هذه الضمانات عن طريق اللجنة التنفيذية العليا، أو نظام آخر يكفل عدم الخوف من الكتابة، وتوهم الكاتب أنه سيطارد، أو يقطع رزقه، خصوصاً أن الآراء التي ستعالج لن تخرج عن مشكلات الناس، والمسائل التنفيذية، وبعض المناقشات فى التطبيق الاشتراكي، وفي هذا فائدة كبيرة، لأنه سيعبر عن الآراء التي تدور في خلد بعض المواطنين".

ثم يعرج للحديث عن تصوره لشكل الحكومة، ويؤكد على أهمية الاستفادة من التجارب العالمية، وعلى مسؤولية الحكومة، رئاسية أو برلمانية، أمام البرلمان "دعني وأنا أودعك أن أحدثك، أيضاً، عن الحكومة، ورأيي فيها، قبل كل شيء، لا يمكن أن تسير أي حكومة في طريقها الطبيعي، نحو الحكم السليم، إذا كان الحكم، في حد ذاته، ممسوخاً ومشوهاً، فيجب، أولاً، أن نستفيد من تجارب العالم، وحكوماته التى عاشت مئات السنين مستقرة منتظمة، من دون حاجة للتغييرات الشاملة، كل فترة قصيرة من الزمن. وفي رأيي، أن النظام الطبيعي للحكم يكون كالآتي:

إما حكومة رئاسية، ويرأس الوزارة فيها رئيس الجمهورية، ويكون مسؤولاً أمام البرلمان، مسؤولية جماعية مع وزرائه. وبدون الدخول في التفاصيل، يمكن أن يكون هناك نائب للرئيس. أو حكومة برلمانية، يرأسها رئيس الجمهورية، ويكون رئيس الاتحاد الاشتراكي هو رئيس الوزراء. ولا أريد أن أدخل في التفاصيل، ولكن، تكون أيضاً مسؤولية الوزارة جماعية أمام البرلمان، كما ورد فى الميثاق".

ثم يتوجه الرجل بالنصح لعبد الناصر بالتواصل المباشر مع الجماهير، مؤكداً على أهميته، ومعدداً إيجابياته، "ودعني، أيضاً، قبل أن أودعك، أن أقول لك إن اختلاطك الشخصي بالناس ضروري، فإنه يعطي الثقة المتبادلة، ويعطي إحساسات متبادلة، ويعطي، أيضاً، أفكاراً متبادلة، وهذا هو الطريق الطبيعي للارتباط بأفراد شعبنا قيادات المستقبل. أما انعزالك التام، فسيجعل صور الناس عندك أسطراً على ورق، أو أسماء مجردة لا معنى لها، وهذا، في رأيي، لا يمثل الواقع".

وإذا توقفنا عند هذه الرسالة، وبصرف النظر عن أنها لم تصدر عن قناعة حقيقية بالديمقراطية لدى عامر، قبل كتابتها أو بعد كتابتها، حتى نحره أو انتحاره، وأنها لم تكن سوى ورقة للمتاجرة والمناورة، وملاعبة عبدالناصر بها، إلا أنها تكشف، بوضوح، إدراك القادة الديكتاتوريين أهمية الحرية والديمقراطية، بعيداً عن التنظيرات والمبررات التي يروجونها لتسويق استبدادهم، والتي مازال دروايشهم وكهنتهم يروجونها من بعدهم. ومن المؤكد أن عبد الناصر كان أكثر إدراكاً لأهمية الديمقراطية والحرية من عامر، بحكم كونه أكثر ثقافة واطلاعاً، وبحكم صداقتة الوطيدة بعامر، أيضاً، فقد كان يدرك لعبة الديمقراطية التي لجأ إليها عامر من باب ""احنا دافنينه سوا"، والذي حرص على توزيع استقالته على أوسع نطاق، لتحقق الهدف المنشود.

وقد أدرك عبد الناصر أن الوضع ليس فى صالحه، بعد استقالة عدد من قادة الجيش، وتذمر عديدين منهم، ولم يكن أمامه من سبيل إلا التراجع، وابتلاع قرار المجلس الرئاسي، وعودة عامر مظفراً لتتسع مهامه وسلطاته التي وصلت إلى رئاسة اتحاد كرة القدم، ومعه الجيش الذي تولى رجاله معظم المناصب العليا في الدولة، بل وداخل الاتحاد الاشتراكي، التنظيم السياسي الشعبي، فى ذلك الوقت، أو المفترض أنه تنظيم شعبي، وليبتلع كل ما تشدق به في استقالته عن الديمقراطية والحرية.

avata
avata
صفوت حسين (مصر)
صفوت حسين (مصر)