وكانت الثورة السودانية قد اندلعت نهاية ديسمبر/ كانون الأول 2018 بعيداً عن العاصمة الخرطوم، في عددٍ من مدن الشمال والوسط والغرب والجنوب والشرق، والتي خرجت بدايةً احتجاجاً على التدهور المعيشي وفقدان السيولة، والندرة الطاحنة في السلع الأساسية، مثل الخبز والوقود وغلاء الأسعار. لكن الاحتجاجات سرعان ما انتقلت إلى العاصمة، التي اجتهدت عبر تنظيمات سياسية ونقابية، على رأسها تجمع المهنيين السودانيين، في تحويل مسار المطالبات بتوفير الخدمات ومعالجات الأزمة المعيشية، إلى مطالبة أشمل وأوسع، هي رحيل النظام كلّياً، بعد مسيرة فشل سياسي واقتصادي وأمني امتدت لنحو 30 عاماً بعد أن كان البشير استولى على السلطة عبر انقلاب عسكري عام 1989.
اتخذت الثورة السودانية أشكالاً مختلفة للتعبير عن نفسها، سواءً بالمواكب النهارية والليلية، أو الوقفات الاحتجاجية، أو الإضراب عن العمل، وحتى العصيان المدني. هذه الأشكال امتدت لأكثر من ثلاثة أشهر، قبل أن يقرر تحالف قوى الحرية والتغيير (المكونات السياسية السودانية المعارضة)، الذهاب إلى محيط قيادة الجيش في السادس من إبريل/ نيسان من العام الماضي، وتقديم مذكرة لهذه القيادة تحثها على الانحياز للخيار الشعبي. لكن فكرة المذكرة تحولت بعد نجاح المتظاهرين في الدخول إلى محيط القيادة العامة للجيش، إلى اعتصامٍ شعبي مفتوح، دفع قيادات الجيش والأمن والدعم السريع والشرطة إلى اتخاذ قرار مشترك بإطاحة نظام البشير واستلام السلطة وتعطيل العمل بالدستور.
غير أن الشارع الثوري، ومن خلفه الأحزاب السياسية، رفضوا جملةً وتفصيلاً الخطوة، وأبقوا على الاعتصام في مكانه، إلى حين تشكيل حكومة مدنية كاملة. هذا الأمر لم يجد قبولاً لدى العسكر، الذين تمكنوا من فضّ الاعتصام في مطلع يونيو/ حزيران الماضي، متسببين بمجزرة وصل عدد ضحاياها إلى أكثر من 100 قتيل من دون أن تظهر حتى اليوم أي نوايا جادة بشأن تحميل المسؤولين الرئيسيين المسؤولية ومحاسبتهم.
لاحقاً، عاود المتظاهرون الكرة مرة أخرى بالانتفاض ضد المجلس العسكري، مرغمين إياه على تشكيل حكومة مدنية بصلاحيات واسعة، مع مشاركة للعسكريين في مجلس السيادة بصلاحيات تشريفية.
وفي أغسطس/ آب الماضي، تشكلت الحكومة المدنية في السودان، ومعها مجلس السيادة الانتقالي، لتواجه هذه الحكومة التي ترّأسها عبد الله حمدوك بجملةٍ من التحديات، وتركة أمنية وسياسية ثقيلة للنظام السابق، وواقع اقتصادي ومعيشي مأزوم.
وحول إنجازات العام الماضي، رأى القيادي في قوى إعلان الحرية والتغيير، بابكر فيصل، أن الثورة السودانية التي حملت شعار الحرية والسلام والعدالة، حققت في عامها الأول الكثير من النجاح على الرغم من جسامة التحديات، مبيناً أن أهم ثمار تلك النجاحات، هو حمل شعار الحرية إلى أرض الواقع، بعد إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية القمعية، وحصر مهمتها في جمع وتحليل المعلومات، وليس اعتقال مخالفي الرأي ومصادرة الصحف وانتهاك حقوق الإنسان في التعبير والتجمع والتنظيم، وهي حقوق صارت جميعها متاحة بموجب القانون.
ولفت فيصل، في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أن عدداً من القوانين المُقيّدة للحريات العامة، تمّ تعديلها أو إلغاؤها، مثل قانون النظام العام سيئ السمعة، الذي كان يطارد النساء والشباب في الشوارع بسبب ملابسهم. كذلك أشار إلى قطع عملية السلام شوطاً بعيداً مع عددٍ من الحركات المسلحة، خصوصاً الجبهة الثورية، مع تنفيذ وقفٍ شامل لإطلاق النار في كافة الجبهات. وتضم الجبهة عدداً من الحركات المسلحة تقاتل في إقليم دارفور، والنيل الأزرق وجنوب كردفان. ومن أبرز تلك الحركات، العدل والمساواة بزعامة جبريل إبراهيم، وتحرير السودان بزعامة ميني أركوميناوي، والحركة الشعبية قطاع الشمال (فصيل مالك عقار).
أما في ما خصّ الضلع الثالث في مثلث شعارات الثورة، والخاص بالعدالة، فوفقاً لفيصل تم تحقق تقدماً نسبياً، على الرغم من أنه غير مرضي عنه، حتى لـ"الحرية والتغيير"، منوهاً في المقابل إلى أن أهم إنجاز حتى الآن هو الالتزام بمثول البشير أمام المحكمة الجنائية الدولية، واعتقال رموز النظام السابق، وإن تأخرت إجراءات محاكمتهم.
وفي شهر فبراير/ شباط الماضي، صدرت تصريحات عن مسؤولين سودانيين تؤكد الموافقة على مثول البشير أمام المحكمة الجنائية، من دون أن يعني ذلك تسليمه لها.
وكانت المحكمة الجنائية الدولية قد اتهمت البشير، في عام 2009، بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية في منطقة دارفور، التي شهدت منذ عام 2003 اضطراباً أمنياً واسعاً، بعد تمرد عدد من الجماعات على السلطة المركزية. وأدى النزاع إلى مقتل نحو 300 ألف شخص، ونزوح أكثر من مليونين، حسب تقديرات الأمم المتحدة. ورفض السودان، في عهد البشير، التعامل مع المحكمة الجنائية الدولية، واتهمها بأنها مسيسة، مهمتها استهداف دول العالم الثالث وتجاهل جرائم أخرى ترتكبها الدول العظمى.
وإلى جانب الاتهامات التي واجهها البشير من قبل المحكمة الجنائية الدولية، فإنه يخضع إلى محاكمة داخلية بتهم الثراء الحرام والتعامل غير المشروع بالعملة الأجنبية فضلاً عن قتل المتظاهرين. وعقب عزله، عثرت السلطات على مبلغ سبعة ملايين يورو، في منزل البشير، الذي ذكر في اعترافه أنّ المبلغ جزء من 25 مليون دولار، أرسلها له بصورة شخصية ولي العهد السعودي، لكنه نفى في أقواله أمام المحكمة إنفاق المبلغ لمصلحته الشخصية، وقال إنّه وزعه على عدد من المؤسسات. وصدر يوم الأربعاء الماضي حكم بإيداعه في مؤسسة إصلاحية لمدة عامين بعدما خسر الاستئناف الذي تقدم به محاموه. كما يواجه البشير اتهامات إلى جانب 15 من ضباط القوات المسلحة و8 مدنيين، من النيابة، بتقويض النظام الدستوري، على خلفية انقلاب 1989.
من جهة ثانية، أقرّ فيصل بوجود إخفاقٍ كبير خلال الفترة الماضية في الملف الاقتصادي ومعاش الناس، وذلك لاعتبارات عدة، منها الخلاف حول البرنامج الاقتصادي بين الحكومة وحاضنتها السياسية، "قوى الحرية والتغيير"، وضعف الدعم الدولي المالي للتغيير في السودان، والتعقيد في العلاقات الخارجية، نتيجة استمرار وضع اسم السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب، ما يحرم البلاد من فرص الاستثمار، ومن الحصول على قروضٍ ومنحٍ من المؤسسات الدولية. هذا غير حجم الخراب الاقتصادي، برأيه، الذي مارسه النظام السابق طوال 30 عاماً.
ما رسمه بابكر فيصل لا يتفق معه كُلّياً الدكتور عبد العزيز نور عشر، القيادي في صفوف "الجبهة الثورية"، وهي تحالف لمجموعات كانت في حالة قتال مع نظام البشير. ويقول عشر، لـ"العربي الجديد"، إن ما أنجز بعد عام من سقوط البشير لا يتناسب مع طموحات الشعب السوداني وتطلعاته نحو الحرية والسلام والعدالة، مبيناً على سبيل المثال أن عدم تحقيق أي إنجاز في مجال إصلاح المؤسسات العدلية، ولو بالنذر اليسير، فيما لم تتحرك الحكومة كثيراً تجاه مظالم معروفة. وفي هذا الإطار، استشهد عشر باتفاقٍ بين الحكومة و"الجبهة الثورية" على إطلاق سراح أسرى الحركات المسلحة، وقد تمّ بالفعل إطلاق سراح عددٍ قليلٍ منهم، فيما لا يزال مصير نحو 500 أسير مجهولاً حتى الساعة. كذلك انتقد القيادي في "الجبهة الثورية"، عدم تقديم الذين ارتكبوا الجرائم ضد الإنسانية في دارفور ومناطق أخرى للعدالة.
وبالنسبة للإيجابيات، أشار عشر إلى تحقيق بعض التقدم في عملية السلام، معتبراً أن اكتمالها سيكون مدخلاً سليماً لعلاج العديد من المشكلات، بما في ذلك الأوضاع المعيشية وتحسين علاقات السودان الخارجية، خصوصاً لو ترافقت العملية مع مصالحةٍ اجتماعية شاملة، مبيناً أن التفكيك الكُلّي لتركة البشير يحتاج إلى مزيدٍ من الوقت والجدية.
في الضفة الأخرى، يرسم متابعون صورةً قاتمةً للأوضاع ما بعد البشير، ومن بينهم أنصار الرئيس المعزول نفسه. ورأى القيادي في حزب المؤتمر الوطني المحظور، محمد الحسن الأمين، أن طريقة الانقلاب على البشير نفسها كانت خاطئة، ولم تسهم في تحقيق الأهداف المنشودة منها، مشيراً في حديثٍ لـ"العربي الجديد" إلى أن مجمل الوضع في البلاد اليوم، أسوأ مما كان عليه قبل 11 إبريل/ نيسان الماضي، من حيث الراهن السياسي والتدهور المريع في الخدمات والغلاء الطاحن في أسعار السلع الضرورية، مضيفاً أن كلّ ذلك لا تزال تصاحبه إجراءات تشفي وانتقام، تقوم بها أحزاب "الحرية والتغيير"، بصورةٍ تتجاهل معها شعارات الحرية والعدالة والسلام المرفوعة.
ورأى القيادي في حزب "المؤتمر"، أن هناك فشلاً ذريعاً في البرامج الحكومية، إن كان هناك برنامج أصلاً، بحسب تعبيره، مع وجود تشرذمٍ وانقسام وسط المجموعات الحاكمة، تُسجل فيها سيطرةٌ واضحة لقوى اليسار. وأقرّ الأمين بوجود هامش للحريات أفضل من السابق، مشدداً على أهمية حلّ الحكومة الحالية واستبدالها بأخرى تتمتع بخبرات حقيقية، تلامس الواقع السياسي والاقتصادي، والتعامل بكفاءة مع الهزّة الاقتصادية العالمية ما بعد تفشي وباء كورونا، والتي ستحول دون تقديم أيّ دعمٍ للسودان.