في هذا السياق، يُعتبر 7 أبريل/نيسان 2014، تاريخاً لبدء النزاع في الشرق الأوكراني، بعد إعلان رئيس البرلمان الأوكراني في ذلك الوقت، ألكسندر تورتشينوف، الذي كان قائماً بأعمال رئيس البلاد، عن "تطبيق إجراءات مكافحة الإرهاب ضد كل من حمل السلاح".
وجاء قرار كييف بعد إعلان النشطاء الموالين لروسيا في مناطق متفرقة من أوكرانيا، عن عزمهم إجراء استفتاء لتقرير المصير، على غرار استفتاء شبه جزيرة القرم، التي ضمّتها روسيا في مارس/آذار 2014، ورفضهم الاعتراف بالسلطات الأوكرانية الجديدة، وسيطرتهم على مبانٍ إدارية في مدن عدة. وقد تمكنت القوات الأوكرانية من السيطرة على الأوضاع في كل المدن، باستثناء لوغانسك ودونيتسك، اللتين أعلنتا بشكل أحادي الجانب، عن قيام ما عُرف باسم "جمهورية لوغانسك الشعبية" و"جمهورية دونيتسك الشعبية".
ومنذ بداية الأزمة، وجّهت أوكرانيا ودول الغرب اتهامات إلى روسيا بـ"دعم الانفصاليين"، بينما شدّدت موسكو مراراً على أن "الأحداث الدموية في دونباس، جاءت نتيجة للانقلاب غير الدستوري، الذي أطاح بالرئيس (الموالي لها) فيكتور يانوكوفيتش (في فبراير/شباط 2014)". مع العلم أن روسيا أطلقت على العملية العسكرية، التي شنّتها كييف في شرق البلاد، تسمية "العملية العقابية".
إلا أن الدبلوماسي الأوكراني السابق، رئيس منظمة "الميدان للشؤون الخارجية"، بوغدان ياريمينكو، يرى أن "ما يجري في شرق أوكرانيا ليس حرباً أهلية، إنما جزء من العدوان المسلح الروسي، الذي بدأ باحتلال القرم". ويقول ياريمينكو في اتصال مع "العربي الجديد" من العاصمة الأوكرانية كييف، إن "هناك وحدات عسكرية روسية كاملة تقاتل في دونباس، وكل الأسلحة المستخدمة هناك جديدة وروسية المنشأ". ويضيف أنه "كانت هناك بعض المشاكل الاجتماعية والاقتصادية في دونباس، شأنها في ذلك شأن باقي مناطق أوكرانيا، ولكنها لم تكن تصل إلى درجة تجعل السكان يحملون السلاح من تلقاء أنفسهم".
وحول محادثات السلام التي عُقدت في العاصمة البيلاروسية مينسك، يعتبر الدبلوماسي السابق، أنها "وسيلة لتحويل العدوان إلى حرب أهلية"، مشيراً إلى أن "كييف اضطرت للتوقيع على اتفاقات مينسك، لإدراكها التفوق العسكري لموسكو، التي تريد الحفاظ على بؤرة التوتر لخدمة سياستها الخارجية"، على حد قوله.
ويتوقع ياريمينكو أن "تتجه الأمور في دونباس نحو تجميد النزاع مع استمرار التوتر، ليُضاف شرق أوكرانيا بالتالي إلى قائمة النزاعات المجمّدة في فضاء الاتحاد السوفييتي السابق، على غرار أقاليم ترانسنيستريا في مولدوفا، وأبخازيا في جورجيا، وناغورني قره باغ، الذي شهد مواجهات دامية بين أرمينيا وأذربيجان خلال الأيام القليلة الماضية.
وتعود كثرة النزاعات بالجمهوريات السوفييتية السابقة، إلى التوزيع التعسفي للمناطق بين الجمهوريات في الحقبة السوفييتية وفقاً لاعتبارات إدارية، من دون أخذ العوامل الإثنية والتاريخية بعين الاعتبار. وعلى الرغم أن شعوب الاتحاد السوفييتي عاشت في سلام تحت الإدارة المركزية والشمولية من موسكو، إلا أن قوميات كثيرة وجدت نفسها في وضع "الأقلية" بالدول الوليدة، بعد تفكك الاتحاد في عام 1991، مما أسفر عن ظهور عدد من بؤر التوتر.
ومن الأمثلة على ذلك، بقاء شبه جزيرة القرم ذات الأغلبية الروسية، جزءاً من أوكرانيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وإقليم ناغورني قره باغ، ذي الأغلبية الأرمينية، جزءاً من أذربيجان وغيرهما. ولعلّ أوكرانيا تعتبر من أبرز النماذج لمجتمع منقسم بين غرب البلاد، الذي يتحدث سكانه اللغة الأوكرانية ويتطلعون للتكامل مع أوروبا، والشرق الموالي لروسيا. وفي هذا الصدد تحديداً، وصف المفكر السياسي الأميركي الراحل، صامويل هنتنغتون، في كتاب "صدام الحضارات"، أوكرانيا بأنها "بلد منقسم ذو ثقافتين مختلفتين".
من جهته، يشير الصحافي من دونيتسك، ألكسندر تشالينكو، إلى أن "السلطات الشيوعية في الاتحاد السوفييتي أنتجت جمهورية أوكرانيا الاصطناعية، عن طريق ضمّ بضع مناطق ذات ثقافات مختلفة، وهو أمر أدى إلى حدوث انقسامات عميقة في المجتمع الأوكراني".
ويضيف تشالينكو في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أنه "عندما كانت أوكرانيا جزءاً من الاتحاد السوفييتي، كانت موسكو تردع القوى القومية الأوكرانية، لكن بعد تفكك الاتحاد، بدأت الأمزجة القومية غرب أوكرانيا في التنامي، مما أدى إلى تبلور ملامح المقاومة الروسية كردّ على ذلك".
ويشير الصحافي المقيم في موسكو حالياً، في الوقت نفسه، إلى أن "الهدوء في أوكرانيا كان يمكن أن يستمر لفترة طويلة، لولا انتصار الميدان الأوروبي في كييف، في فبراير 2014". كما يضيف أنه "بعد انتصار القوى الراديكالية في كييف، لم يعد أمام جنوب شرق أوكرانيا أي خيار، إما الموت وإما بدء الانتفاضة".
وحول الاتهامات الموجّهة إلى موسكو بالضلوع في النزاع، يقول تشالينكو: "هناك دعم عسكري روسي غير معلن، ولكن 90 في المائة من المقاتلين هم سكان محليون ولدوا على هذه الأرض، بينما لا تزيد نسبة المتطوعين عن 10 في المائة". وسبق للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أن نفى مراراً وجود قوات روسية في دونباس، معتبراً أن "المقاتلين الروس الموجودين هناك متطوعون ويشاركون في الحرب بإرادتهم".
وبدأت الأزمة السياسية في أوكرانيا في نوفمبر/تشرين الثاني 2013، عندما قرر يانوكوفيتش العدول عن التوقيع على اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، مما دفع أنصار "التكامل مع أوروبا" إلى تنظيم تظاهرات واحتجاجات عُرفت باسم "الميدان الأوروبي".
وفي فبراير 2014، شهدت أوكرانيا موجة من الاضطرابات وأعمال العنف أسفرت عن هروب يانوكوفيتش إلى روسيا، قبل أن يتفاقم الوضع ليبلغ مرحلة النزاع المسلح شرق البلاد في إبريل/نيسان من العام نفسه. وبحسب البيانات الصادرة عن الأمم المتحدة، فقد أسفر النزاع عن سقوط أكثر من 9 آلاف قتيل، بينما قدّر الرئيس الأوكراني، بيترو بوروشينكو، عددهم بنحو 10 آلاف، أكثر من 2700 منهم في صفوف الجيش الأوكراني.