24 سبتمبر 2020
عالم ما بعد الصدمة والرعب
تمام الخامسة وأربع وثلاثين دقيقة، من فجر يوم الخميس، 20 مارس/ آذار من العام 2003، وبعد مرور 90 دقيقة على انتهاء مهلة الـ 48 ساعة التي كان قد حدّدها الرئيس الأميركي في ذلك الوقت، جورج دبليو بوش الابن، للرئيس العراقي، صدام حسين، لمغادرة العراق، هو وولديه عدي وقصي، والذي لم يمتثل لذلك، فب تلك اللحظة، انطلق أربعون صاروخ كروز توما هوك من حاملة الطائرات الأميركية، إبرهام لينكولن، ومجموعة القتال البحرية المرافقة لها، موجهة إلى أربعين هدفاً محددة مسبقا فى بغداد. وكانت تلك لحظة فارقة، وضعت نهاية لعصر مضى، وبداية لعصر جديد، يولد من رحم حرب لم يسبق لها مثيل، بدا أنها كانت حتمية من وجهة نظر أميركا، كانت تُعد لها من زمن، وتنتظر اللحظة المناسبة، والميدان المناسب، حتى تنتقل بها إلى عصر جديد، وليكون القرن الحادي والعشرين بحق القرن الأميركي.
اختارت القيادة الأميركية لتلك الحرب اسم "الصدمة والرعب"، وهي نظرية تهدف إلى اتباع استراتيچية تحقق الهيمنة السريعة، باستخدام القوة المفرطة، والساحقة، للسيطرة على الوعي، والاستيعاب لدى العدو المستهدف، لشل تصوّره ورؤيته، وتدمير إرادته، وإجباره على إسقاط خيار المقاومة، والاستسلام. وهو ما جرى بالضبط خلال الحرب على العراق وغزوه، حيث تعرض لما يمكن تسميته الهجوم بزاوية 360 درجة، من جميع الوسائط، من البر والبحر والجو والفضاء، في عملياتٍ متزامنةٍ، صاحبتها حرب المعلومات، والحرب النفسية التي أدارتها وسائل الإعلام. أحدثت تلك القوة الكاسحة الصدمة المطلوبة التي شلت الإرادة والقدرة على رد الفعل والمقاومة، وانتهت ببث الرعب في النفوس، وإرهاب المجتمع العراقى وتعطيله، وإفقاده قدراته على الرد، والشعور بأن أي عمل معاكس سيكون عديم الفائدة، وستكون له نتائج سلبية.
هكذا طبقت أميركا استراتيچية "الصدمة والرعب" في غزوها العراق، بنجاح مذهل. تلك النظرية التي وضعها ضابط البحرية المتقاعد، هارلان أولمان، وزميل له يدعى جيمس وايد، في 1966، واقتنع بها، وطبقها وزير الدفاع الأميركي، دونالد رامسفيلد، إبّان غزو العراق الذى بدأ بصدمة صواريخ التوما هوك فجر 20 مارس/آذار، وانتهى برعب مشهد سقوط بغداد في 9 إبريل/ نيسان 2003.
كانت المشاهد التي عاشها الشعب العراقي على مدى أيام الغزو مروعة، ولم يقتصر الأمر على الشعب العراقي، بل امتد ليشمل كل شعوب المنطقة العربية، بل والعالم كله، من خلال التغطية
الإعلامية الحية لوقائع الغزو على مدار الساعة عبر القنوات الفضائية، جعلت العالم يعيش لحظات الصدمة والرعب، وانتابت الجميع حالة من الذهول وعدم اليقين فيما يحمله المستقبل. وأصبح مؤكدا أنه تم الانتقال إلى عالم جديد، تسارعت فيه المتغيرات، وتبدلت المواقف، عالم ما بعد الصدمة والرعب.
حاول العدو الإسرائيلى تطبيق استراتيچية الصدمة والرعب في حربه على لبنان عام 2006، لإحداث تغيير جوهري في عصب المقاومة التي كانت تنطلق من قواعد حزب الله في جنوب لبنان، وتفكيك النسيج الاجتماعي اللبناني، لكنها فشلت في تحقيق كل أهدافها، بسبب الموقف الدولي الذي كان حريصاً على تماسك لبنان، واقتصر الأمر على وقف عمليات مقاومة حزب الله ضد العدو الإسرائيلي من جنوب لبنان. وكرّر العدو الإسرائيلي الإستراتيجية نفسها، في حربه ضد المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة عامي 2008 و 2014، تلك الحروب التي أسفرت عن تدمير مادي هائل في كل مقومات القطاع، لكنها فشلت في تحقيق غرض الهيمنة، وتدمير إرادة الشعب، وإسقاط خيار المقاومة.
لم يتوقف أمر استراتيجية الصدمة والرعب على الحروب والعمليات العسكرية في المنطقة. ولكن تحول ليكون استراتيجية عامة للتعامل مع شعوب المنطقة العربية بصفة خاصة، وبأساليب متعددة لفرض مشروعات الهيمنة على مقدرات الشعوب، باستهداف إدراكها، ووعيها، وتشتيت قدراتها، عبر بث حالةٍ من الرعب والترويع، تؤدي إلى تفكيك البنية الاجتماعية المتماسكة. وهكذا تفقد الشعوب القدرة على رد الفعل، والمقاومة، ويسهل السيطرة السريعة عليها، وتمرير المشروعات المستهدفة، محلية كانت، تسعى إليها السلطة الحاكمة فى الدولة، أو ذات طابع إقليمي أو دولي.
لدينا بعض النماذج لتطبيق استراتيجية "الصدمة والرعب" بعيداً عن المجالات العسكرية، على المستويات المختلفة، فعلى المستوى الإقليمي كانت عملية الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة العدو الإسرائيلي نموذجاً عمليا لتطبيقها، حيث بدأت العملية بصدمة تصديق الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، على قرار اعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة للكيان الصهيونًي في مشهد درامي مصور، ثم جاءت حالة الرعب، عندما نفذ القرار بنقل السفارة الأميركية إلى القدس، وسط ذهول العالم العربي، وصمت نُظم الحكم. ولم يكتف الرئيس الأميركى بذلك، بل قرّر إيقاف مساهمة بلاده في ميزانية وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، بغرض تصفية قضية حق العودة للاجئين. واستمراراً في بث حالة الذهول والترويع، قرر إيقاف دعم السلطة الوطنية الفلسطينية، والذي يمثل عنصراً رئيسيا فى ميزانيتها. لم يكتف بذلك، بل أصدر قراراً بإغلاق مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية في الولايات المتحدة.
على المستوى المحلي، تأتي جريمة قتل الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، في قنصلية بلاده في إسطنبول، نموذجا مصغرا لتطبيق استراتيجية الصدمة والرعب، لترهيب الأصوات المعارضة. جاءت الصدمة من خلال فكرة الاستدراج، والقتل غيلة فور دخول القنصلية، وهو ما تم الاعتراف به أولاً، ثم كان الرعب متمثلا في الكشف عن أسلوب الترويع والقتل المباشر، وتقطيع الجثة والتصرّف فيها بشكل مُريب، وهو أيضاً ما اعترفت به السلطات السعودية عبر النائب العام.
يبقى السؤال الذي يجب أن يشغلنا جميعاً في العالم العربي، عن مدى قدرتنا على إدراك أبعاد
ما ينتظرنا، في ظل نظام عالمي، ونظم حكم تتماهى معه، يتعاملون معنا بإستراتيجية "الصدمة والرعب"، وكيف نستشرف خطواتنا نحو المستقبل، بعد كل الصدمات التي عشناها، وما سبّبته لنا من حالات رعب، روّعتنا ولا تزال تروعنا؟ فمن أين ستأتي الصدمة المقبلة؟ وما الذي ستستهدفه؟ وما حدودها؟ وما هو حجم الرعب الذي قد يترتب عليها؟ أعتقد أنها ستكون صدمة شاملة، ستوجه إلى كل الأمة العربية، ولكن لن تقتصر على دولةٍ، أو عدة دول، ولن تستهدف نُظم حكم أو حكام، لكنها ستستهدف حتماً جوهر الأمة وكيانها، شعوباً ونظم حكم على السواء.
وتشير الدلائل إلى تهيئة المسرح بواسطة التحالف الصهيوأميركي، وتحركاته الواضحة، والتي قد تنتهي بالصدمة الرئيسية، طرح ما أطلقوا عليها صفقة القرن، أو المشروع الأميركى للسلام، وفرضه على المنطقة، لتصفية القضية الفلسطينية، وإعادة هيكلة المنطقة، والقضاء على كل التوجهات ذات الطابع الأيدولوجي، إسلامية أو قومية، بدعوى الحداثة، والليبرالية، ومحاربة الإرهاب، وتطوير الخطاب الديني. ثم يأتي الرعب، متمثلا في فرض الدولة العبرية ذات الطابع القومي اليهودي، بإعتبارها الدولة القائدة والرائدة في المنطقة، والتي ستُحقق حلم "إسرائيل الكبرى". فهل تملك شعوبنا القدرة على احتواء الصدمة المقبلة؟ وهل لديها القدرة على تحصين نفسها ضد الرعب المنتظر؟ تكمن الإجابة في القدرة على إحياء روح المقاومة الحقيقية في الشعوب، وإدراكها خطر التعرّض لتهديد وجودي، لا يستهدف الأرض فقط، ولكن يستهدف أيضاً العقيدة والهوية.
اختارت القيادة الأميركية لتلك الحرب اسم "الصدمة والرعب"، وهي نظرية تهدف إلى اتباع استراتيچية تحقق الهيمنة السريعة، باستخدام القوة المفرطة، والساحقة، للسيطرة على الوعي، والاستيعاب لدى العدو المستهدف، لشل تصوّره ورؤيته، وتدمير إرادته، وإجباره على إسقاط خيار المقاومة، والاستسلام. وهو ما جرى بالضبط خلال الحرب على العراق وغزوه، حيث تعرض لما يمكن تسميته الهجوم بزاوية 360 درجة، من جميع الوسائط، من البر والبحر والجو والفضاء، في عملياتٍ متزامنةٍ، صاحبتها حرب المعلومات، والحرب النفسية التي أدارتها وسائل الإعلام. أحدثت تلك القوة الكاسحة الصدمة المطلوبة التي شلت الإرادة والقدرة على رد الفعل والمقاومة، وانتهت ببث الرعب في النفوس، وإرهاب المجتمع العراقى وتعطيله، وإفقاده قدراته على الرد، والشعور بأن أي عمل معاكس سيكون عديم الفائدة، وستكون له نتائج سلبية.
هكذا طبقت أميركا استراتيچية "الصدمة والرعب" في غزوها العراق، بنجاح مذهل. تلك النظرية التي وضعها ضابط البحرية المتقاعد، هارلان أولمان، وزميل له يدعى جيمس وايد، في 1966، واقتنع بها، وطبقها وزير الدفاع الأميركي، دونالد رامسفيلد، إبّان غزو العراق الذى بدأ بصدمة صواريخ التوما هوك فجر 20 مارس/آذار، وانتهى برعب مشهد سقوط بغداد في 9 إبريل/ نيسان 2003.
كانت المشاهد التي عاشها الشعب العراقي على مدى أيام الغزو مروعة، ولم يقتصر الأمر على الشعب العراقي، بل امتد ليشمل كل شعوب المنطقة العربية، بل والعالم كله، من خلال التغطية
حاول العدو الإسرائيلى تطبيق استراتيچية الصدمة والرعب في حربه على لبنان عام 2006، لإحداث تغيير جوهري في عصب المقاومة التي كانت تنطلق من قواعد حزب الله في جنوب لبنان، وتفكيك النسيج الاجتماعي اللبناني، لكنها فشلت في تحقيق كل أهدافها، بسبب الموقف الدولي الذي كان حريصاً على تماسك لبنان، واقتصر الأمر على وقف عمليات مقاومة حزب الله ضد العدو الإسرائيلي من جنوب لبنان. وكرّر العدو الإسرائيلي الإستراتيجية نفسها، في حربه ضد المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة عامي 2008 و 2014، تلك الحروب التي أسفرت عن تدمير مادي هائل في كل مقومات القطاع، لكنها فشلت في تحقيق غرض الهيمنة، وتدمير إرادة الشعب، وإسقاط خيار المقاومة.
لم يتوقف أمر استراتيجية الصدمة والرعب على الحروب والعمليات العسكرية في المنطقة. ولكن تحول ليكون استراتيجية عامة للتعامل مع شعوب المنطقة العربية بصفة خاصة، وبأساليب متعددة لفرض مشروعات الهيمنة على مقدرات الشعوب، باستهداف إدراكها، ووعيها، وتشتيت قدراتها، عبر بث حالةٍ من الرعب والترويع، تؤدي إلى تفكيك البنية الاجتماعية المتماسكة. وهكذا تفقد الشعوب القدرة على رد الفعل، والمقاومة، ويسهل السيطرة السريعة عليها، وتمرير المشروعات المستهدفة، محلية كانت، تسعى إليها السلطة الحاكمة فى الدولة، أو ذات طابع إقليمي أو دولي.
لدينا بعض النماذج لتطبيق استراتيجية "الصدمة والرعب" بعيداً عن المجالات العسكرية، على المستويات المختلفة، فعلى المستوى الإقليمي كانت عملية الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة العدو الإسرائيلي نموذجاً عمليا لتطبيقها، حيث بدأت العملية بصدمة تصديق الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، على قرار اعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة للكيان الصهيونًي في مشهد درامي مصور، ثم جاءت حالة الرعب، عندما نفذ القرار بنقل السفارة الأميركية إلى القدس، وسط ذهول العالم العربي، وصمت نُظم الحكم. ولم يكتف الرئيس الأميركى بذلك، بل قرّر إيقاف مساهمة بلاده في ميزانية وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، بغرض تصفية قضية حق العودة للاجئين. واستمراراً في بث حالة الذهول والترويع، قرر إيقاف دعم السلطة الوطنية الفلسطينية، والذي يمثل عنصراً رئيسيا فى ميزانيتها. لم يكتف بذلك، بل أصدر قراراً بإغلاق مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية في الولايات المتحدة.
على المستوى المحلي، تأتي جريمة قتل الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، في قنصلية بلاده في إسطنبول، نموذجا مصغرا لتطبيق استراتيجية الصدمة والرعب، لترهيب الأصوات المعارضة. جاءت الصدمة من خلال فكرة الاستدراج، والقتل غيلة فور دخول القنصلية، وهو ما تم الاعتراف به أولاً، ثم كان الرعب متمثلا في الكشف عن أسلوب الترويع والقتل المباشر، وتقطيع الجثة والتصرّف فيها بشكل مُريب، وهو أيضاً ما اعترفت به السلطات السعودية عبر النائب العام.
يبقى السؤال الذي يجب أن يشغلنا جميعاً في العالم العربي، عن مدى قدرتنا على إدراك أبعاد
وتشير الدلائل إلى تهيئة المسرح بواسطة التحالف الصهيوأميركي، وتحركاته الواضحة، والتي قد تنتهي بالصدمة الرئيسية، طرح ما أطلقوا عليها صفقة القرن، أو المشروع الأميركى للسلام، وفرضه على المنطقة، لتصفية القضية الفلسطينية، وإعادة هيكلة المنطقة، والقضاء على كل التوجهات ذات الطابع الأيدولوجي، إسلامية أو قومية، بدعوى الحداثة، والليبرالية، ومحاربة الإرهاب، وتطوير الخطاب الديني. ثم يأتي الرعب، متمثلا في فرض الدولة العبرية ذات الطابع القومي اليهودي، بإعتبارها الدولة القائدة والرائدة في المنطقة، والتي ستُحقق حلم "إسرائيل الكبرى". فهل تملك شعوبنا القدرة على احتواء الصدمة المقبلة؟ وهل لديها القدرة على تحصين نفسها ضد الرعب المنتظر؟ تكمن الإجابة في القدرة على إحياء روح المقاومة الحقيقية في الشعوب، وإدراكها خطر التعرّض لتهديد وجودي، لا يستهدف الأرض فقط، ولكن يستهدف أيضاً العقيدة والهوية.