عائض القرني... "الحمقري"

13 مايو 2019
+ الخط -
في غرة الشهر الفضيل، هالني- كما أذهل غيري- ما ذكره الشيخ الدكتور عائض القرني، لم تكن إشكالية أدبية يمكن الخلاف حولها، كما لم تكن سرقة أدبية يُرمى بها، لكنها كانت كلمات أمطر بها المسلمين، وتنكر بها لطرح وتنظير أفنى عمره فيه، رسَّخ في أذهان الناس مقولة عبد الله بن مسعود: "من كان مستنًّا فليستنَّ بمن قد مات؛ فإنَّ الحيَّ لا تُؤْمَنُ عليه الفتنة".

كان القرني قد اعتذر عن مواقفه الفكرية السابقة، وأقر بأن الصحوة الإسلامية قد شابتها تشنجات فكرية وصاحبتها رؤية ضيقة، وتضامن الشيخ مع الإسلام المنفتح المعتدل الذي يحمل بشائره ولي العهد السعودي.

غاظني ما سمعت من الرجل، الخطأ وارد لا محالة، فقد تحول الدكتور مصطفى محمود قبل ذلك إلى العلمانية، ثم عاد إلى ميدان الدين، ولا بأس أن يخطئ عائض القرني ما لم يكن من العشرة المبشرين، ولا من كبار التابعين أو تابعي التابعين؛ فهو رجل لا يزيد عن قارئ هذه السطور قيد أنملة، ربما طارت شهرته عنك، هذا هو الفرق ليس إلا.


الإشكالية التي نقف عندها نوجزها في توظيف الاعتذار لخدمة الباب العالي، وكيف يعقل أن شيخًا يخطو إلى قبره يهتدي بدين يروِّج له ابن سلمان، وأي دينٍ يرتضي أن تمزق أوصال اليمنيين؟! وأي إسلام منفتح يمهد الطريق للتطبيع مع إسرائيل على حساب القضية الفلسطينية؟! أيّ اعتذارٍ يا مولانا؟!

وأخذتني سنة من النوم، ورأيتني في المقهى وقد أعمى الدخان العيون؛ فلم أتبين الوجوه من حولي، لكن أحدهم عاجلني بقوله: بتفكر في إيه؟! فقلت وأنا أبتلع ريقي: مفيش! فباغتني بلهجة ساخرة: يعني كله كويس؟! وانفجر الكراسي من حولي ضحكًا وتصفيقًا. أدركت أن محدثي أستاذنا محمود السعدني، وكثيرًا ما يستخدم (كله كويس) تنديدًا بتطبيل بعض العمال والموظفين والشيوخ للمدراء والوزراء، والدنيا ماشية.

أصر عمنا السعدني أن أسوق له الخبر؛ فلما سمع مني نبأ عائض القرني، قال وعلى شفتيه ابتسامة حائرة: الشيخ كمان طلع حمقري؟! ولم أفهم معنى الحمقري، ولم أقف عليها في معاجم اللغة من قبل، وقبل أن أسأل السعدني عن الحمقري، سبقني مستطردًا: زمان كان مدرس الحساب يعتقد أنني حمار، وكنت أعتقد أنني عبقري، وبعد فترة طويلة من الزمان- تمامًا كما عند القرني- اكتشفت أن المدرس كان على خطأ، واكتشفت أيضًا أن العبد لله لم يكن على صواب؛ فلا أنا عبقري ولا أنا حمار، بصراحة، أنا مزيج من الاثنين، العبقري والحمار.. أنا حمقري!

فهمت مراد عمنا السعدني، لكن صدمة القرني بددت الضحكة سريعًا، والتقط خيط الحديث رجل آخر يجلس على يمين السعدني، وبينما يتهيأ للكلام، مال السعدني على أذني هامسًا: هذا العميد! أحمد بيك أمين.

وتنحنح العميد مرارًا قبل أن يقول: هذا ما حذرت منه قبل سنوات، وقد كتبت غير مرة عن ملق القادة! وتبدد الدخان وبدت الوجوه شيئًا فشيئًا، ولمحت العميد وقد أطرق كأنما يجمع شتات فكرته، ثم رفع رأسه واستأنف حديثه، وفهمت أنه لم يقصد بملق القادة أن يتملق العوام القادة، بل أن يتملق العلماء والشيوخ والأدباء القادة لغرضٍ أو لآخر، وينسى هؤلاء أن جموعًا غفيرة تقتدي بهم، وأن زلة العالم زلةٌ لجموعٍ مقدَّرة، ولذلك قيل: العلماء ملح الأمة، لكن بالطبع لم يقصد بها علماء السلاطين وشيوخ المطبلين.

وسرحت عن العميد برهة ثم أدركته يكمل فكرته: "إني أفهم هذا الوضع في التاجر يسترضي الجمهور؛ لأن نجاح تجارته يتوقف على رضاهم، وأفهم هذا في المغني يقول ما يعجب الناس؛ لأنه نصَّبَ نفسه لإرضائهم واستخراج إعجابهم"، وزفر العميد زفرة طويلة وهو ينظر إلى السعدني، وتسمرت العيون تطلب إلى العميد أن يواصل فكان لها ما أرادت.

وقال العميد: "لكن لا يعد المصلح مصلحًا حتى ينبِّه النَّاس من غفلتهم، ويحملهم على أن يتركوا ما ألفوا من ضار، وأن يعتنقوا ما كرهوا من صالح، وهو في غالب أمره مغضوب عليه ممقوت، واصطلاح السلطان والمصلحين ليس علامة تبشِّر بخير؛ بل هي في الغالب تدل على تراجع المصلح"، وعندها أفقت من سكرتي، وأدركت أنني بحاجة إلى الاعتذار، وسيأتي تفصيل ذلك.