طفلٌ يحاول الانتحار في سجون غزّة.. جريمة أم حادث؟

10 سبتمبر 2017
في أحد سجون قطاع غزّة، تصوير: محمد عبيد
+ الخط -

مازالت علامات الاستفهام تحيط بخبر محاولة انتحار طفل لم يتجاوز عمره 17 عامًا شنقًا، داخل أحد مراكز التوقيف التابعة لحركة "حماس" في قطاع غزّة، ونُقل محمولًا من زنزانة ضيّقة لا تتجاوز الـ50 مترًا، مكدسة بالموقوفين من دون تمييز حسب قضاياهم المختلفة، إلى غرفة العناية المكثَّفة داخل المستشفى الطبيّ.

أثارت حادثة محاولة انتحار الطفل مصطفى سلمان ضجّة في قطاع غزّة، فهو في سنّ لا تسمح قانونًا باحتجازه في السجن بل في مراكز الإصلاح والتأهيل الخاص بـ "الأحداث"؛ لذلك ربما اختار النزيل القاصر طريق الموت على أن يَظل بين جدران الغرفة المعتّمة التي لم تراعِ طفولته، فانعكس دور السجن من كونه أداة رادعة تحاسب المخطئين، إلى أرضٍ خصبة للانتحار.

قبل ما يقارب شهرين تم إلقاء القبض على الطفل مصطفى بسبب شكوى قُدمت ضدّه، لمشاركته في شجار بسيط اعتدى فيه على رجل كبير في السن، واعتقل إثر ذلك وبقي داخل مركز شرطة بيت لاهيا شمال قطاع غزّة. عند مساء الثاني من أيلول/ سبتمبر للعام الجاري، وصل مصطفى إلى المستشفى الإندونيسي بجباليا شمال قطاع غزة، في حالة موت سريري، وحسبما قاله مدير النظارة للمراكز الحقوقية التي دانت احتجازه: "إن عدد الموقوفين داخل النظارة بلغ 70 موقوفًا، مُنحت إجازة العيد لـ 55 منهم وتبقى داخل النظارة 25 شخصاً، وقد كان وقت الحادثة داخل الغرفة التي كان يُحتجز فيها المواطن سلمان ثمانية أشخاص آخرين، حيث توجّه للاغتسال في دورة المياه، وكان موقوف آخر بانتظاره على الباب يريد الاغتسال أيضًا، فطلب منه مصطفى أن يغتسل هو الأوّل فوافق الأخير".

يضيف المتحدّث"دخل مصطفى الحمام، وقام بفتح صنبور المياه، وبعد حوالي 10 دقائق افتقده الموقوف الآخر، فقام بالطرق على الباب فلم يجب، إلى أن فتح هو وأربعة سجناء آخرين الباب فوجدوه معلقًا بنافذة الحمام، حيث إنه مزّق ملابسه الداخلية "الشباح" وقام بربطه في النافذة ثم علّق نفسه". وقد قام حارس النظارة بعمل تنفس صناعي له، ومن ثم تم نقله بسيارة شرطة إلى المستشفى الإندونيسي.

الطفل قام بشنق نفسه ثاني أيَّام العيد، ومازال يرقد الآن بين أجهزة التنفس الصناعي في المستشفى، ووفق إفادة شقيقي الضحية: فإنه "في صباح يوم الخميس الموافق 31 أغسطس/ آب، توجهنا إلى مدير مركز شرطة بيت لاهيا بطلب للسماح لمصطفى بقضاء عيد الأضحى في المنزل مع الأسرة، إلا أن طلبنا قوبل بالرفض. وقد سمح لنا بزيارته أوّل أيّام العيد، وفي اليوم الثاني صباحًا تكرّرت الزيارة بحضور والدته، ولم يكن محتجزًا معه في النظارة إلا موقوف واحد في يومي العيد، حسب ما رأينا، وخلال الزيارة شكا لنا من المعاملة السيئة التي يتلقاها في مركز التوقيف، وكان شديد الحزن لعدم قضائه العيد معنا".

وجاء في الشهادة الحقوقيّة أن أهله في حوالي الساعة الرابعة عصرًا تلقوا اتصالًا مفاده أن مصطفى دخل في شجار بالحجز وأصيب، وتم نقله للمستشفى الإندونيسي بجباليا. وعندما توجّهوا للمستشفى وجدوه لا يتحرّك وقد وضعوا له أجهزة الإنعاش، وعلى جسده أثار لجروح قطعية في البطن والكتفين وآثار لتورم في العنق.

في حديث مع الناطق الرسمي باسم وزارة الداخلية التابعة لحركة حماس في غزة إياد البزم قال: "إنه لا يسمح لأي موقوف على خلفيّة شجار أن يتم الإفراج عنه إلَّا بعد الحصول على ورقة صلح عشائري من قبل عائلته والعائلة التي قدمت بلاغًا ضده".

وأكدَّ على أن الطفل لم يتلقَ أي تعذيب وكان إيقافه بقرار من المحكمة التي رفضت الإفراج عنه في فترة العيد منعًا لأي ضرر قد يقع عليه من قبل أفراد الجهة التي قُدمت شكوى ضده.

البزم نبّه الى أنهم بعثوا بسجل اسمه لـ"مؤسسة الربيع" المسؤولة عن أطفال الأحداث لكنهم رفضوا لأسباب تتعلق بسياسة المؤسسة؛ فالطفل من مواليد 9/1/ 2001، أي أنه سيبلغ الثامنة عشرة بعد أشهر قريبة متجاوزَا مرحلة الطفولة على حدّ تعبيره.

إقدام طفل على الانتحار في هذا العمر لم يكن من فراغ، فربما كانت الظروف السيئّة المحيطة باعتقاله في سجن البالغين الممتلئ بالنزلاء غير ملائمة للعيش، وارتفاع درجة الحرارة والرطوبة خصوصًا في فصل الصّيف، وعدم وجود منافذ للتهوية وصغر مساحته مقارنة باحتوائه قرابة الخمسين شخصًا في غرفة واحدة وراء ذلك.

تقول المادة (244) من قانون مراكز الإصلاح والتأهيل، إنه لا يجوز احتجاز طفل داخل النظارة، كما أكدت على ضرورة احتجاز الاطفال (من دون 18 عامًا) في المؤسّسات الخاصة بهم "مؤسّسة الربيع"، وجاءت محاولة الطفل الانتحار لتكشف عورة عمل مراكز التوقيف  دون أيّ حسيب أو رقيب.

"مؤسّسة الربيع" المسؤولة عن رعاية الأحداث، تحدث على لسانها الأخصائي النفسي محمد أبو يوسف الذي يستقبل الأطفال الأحداث وقال: "إنهم لم يستقبلوا أي حالة تُعرض عليهم من قبل النيابة، منذ شهر، بسبب اكتفائهم بالعدد المسموح به وهو 48 نزيلًا وفق مساحة المكان؛ إذ تحتوي المؤسّسة على أربعة "عنابر" في كل واحد جناحان بهما 12 سريرًا، وهم عادةً يستقبلون الاطفال من سن 13 إلى 17 عامًا".

وأشار الأخصائي النفسي إلى مراعاتهم عدة شروط في اختيار النزلاء وتتمثل في خلو سجل الطفل من الجرائم قبل مجيئه، وأن لا تكون"بنيته الجسدية" أكبر من عمره فلا تبدو عليه ملامح الطفولة.

وفي حالات الاستثناء تخلي المؤسسة بعض نزلائها في إجازة منزلية بعد تواصل مع النيابة، كي تتيح الفرصة لعدد آخر، لكنّ اعتباراتها في تصنيف وضع الطفل مصطفى، كانت مختلفة، حيث ظنّت أن "بنيته الجسدية" قد تشكّل خطرًا على الأطفال المتواجدين حيث يظهر أنه أكبر سنًا منهم، وهذا مخالف قانونيَّا لأن المؤسّسة رفضت استقباله بناءً على تكوينات فزيولوجيَّة وليس عمريَّة.

كما يشير أبو يوسف إلى أن النيابة عرضت عليهم قبل شهر، سجل موقوفين لديها يصل عددهم إلى نحو 80 طفلًا، لكنهم رفضوا استقبالهم بسبب عدم توافر مكان لهم، ما يدل على أن عشرات الأطفال الموقوفين باتوا يحتجزون في سجون البالغين في مخالفة واضحة للقانون، وفي ظروف غامضة.

المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان أصدر بيانًا دان فيه تلك الحادثة التي وقعت مع الطفل سلمان واستغرب المركز المعايير التي يتبعها مدير النظارة في تحديد سن الطفولة، والتي تفتقر إلى المهنيَّة وتخالف القانون بشكل واضح، بل إن "نتائجها أصبحت واضحة بعد أن أقدم الطفل مصطفى على الانتحار نتيجة لظروف احتجازه في مكان لا يتناسب مع عمره العقلي".  وأوضح أن احتجاز طفل بهذا العمر مع بالغين خطرين، كان من المفترض أن يتوقع مدير النظارة نتائجه.

واستنكر المركز احتجاز الطفل مصطفى على ذمّة قضية شجار لأكثر من عشرين يومًا، مع العلم أن قانون الطفل الفلسطيني وفي المادة (69) يؤكّد على إعطاء "الأولوية للوسائل الوقائية والتربوية ويتجنّب قدر الإمكان الالتجاء إلى التوقيف الاحتياطي والعقوبات السالبة للحرية".

وشدّد البيان، على الأحكام الواردة في المادة (20) من قرار بقانون رقم (4) لسنة 2016 ينص على "أن يكون احتجاز الحدث (الطفل) على ذمة التحقيق استثناء إذا كانت ظروف الدعوى تستدعي ذلك وحينها يجوز لنيابة الأحداث الأمر بتوقيفه في إحدى دور الرعاية الاجتماعية تحت ملاحظة مرشد حماية الطفولة المتابع وتقديمه عند كل طلب". وأكد على عدم جواز حجز الحدث على ذمّة التحقيق لمدة تتجاوز الحد الأدنى للعقوبة، وأن لا يتم اللجوء للحجز إلا كخيار أخير، وأن تعطى الأولوية لإطلاق الطفل بكفالة، وأن يمنح الإجازات اللازمة وخاصة في الأعياد الرسميَّة.

ومن الواضح أنّ الجهات الرسميَّة تنصّلت من دورها في حماية الطفل الذي أقدم على الانتحار دون سابق إنذار، ويستغرب محمّد أبو هاشم  المختص في حقوق الإنسان من رواية الأمن التي تخطئ في تحديد معايير الطفولة قائلًا: "إنه لأمر معيب ومهين الاعتماد على حجم الطفل لتقدير طفولته وزجّه مع سجناء خطيرين، فيما يفترض أن يكون في المكان المخصص لفئته العمرية، أو يتمّ إخراجه بكفالة مالية بدلًا من الوصول إلى هذه المرحلة الخطيرة".

وحمَّل الحقوقيّ المسؤوليَّة في جريمة انتحار الطفل لكل من مراكز التوقيف والنيابة العامة التي تتابع ظروف الاحتجاز، وأعضاء المجلس التشريعي ولجان المجلس التشريعي أيضًا، معتبرًا "ورقة الصلح" التي كانت النيابة بانتظارها للإفراج عن الطفل ليست قانونيَّة بل عشائرية على حدّ تعبيره.

واعتبر أبو هاشم الرواية الأمنية "بأن السجن حماية له" حجّة غير منطقية وغير مبرّرة من سلطة تنتشر عناصرها بالشوارع، فكيف لها تعجز عن حماية طفل من انتقام قد يتعرّض له وتدعي حمايته بسجن دفعته ظروفه للانتحار وفقًا لروايتها؟

وحول أعداد حالات الانتحار في قطاع غزّة مؤخرًا لم تصدر الجهات المختصة أي إحصائيات، لكن حسب تدوينات مراقبين ومختصين في علم النفس والاقتصاد، لاحظوا أن هناك زيادة في حالات الانتحار ووجب دقّ ناقوس الخطر، وتشير التقارير الحقوقيّة والطبيّة إلى أن هناك عشرات محاولات الانتحار شهريًا لا يُفصح عنها خوفًا من إحداث بلبلة في الشارع الغزّي.

وفي تقارير لجهات رسميَّة حول حالات الانتحار، وصلت إلى 17 حالة و80 محاولة في العام الماضي، 2016، مقارنة بـ 35 محاولة في 2015 انتهت خمس منها بالوفاة. أما العام الجاري، فرفضت الجهات المسؤولة في غزّة، ومنها الشرطة، إعطاء إحصاءات رسميّة بشأنها، واكتفت بقول "إن العام الحالي شهد زيادة في عدد الوفيات ومحاولات الانتحار".

المساهمون