خلف الآمال الكبيرة والترحيب الدولي باتفاق وقف إطلاق النار الذي أُعلن عنه في ليبيا يوم الجمعة الماضي، تجتمع مشاكل محلية ومصالح دولية لتشكّل عوامل قد تعطّل من جديد أي محاولات للحل السياسي في البلاد، إثر تجارب سابقة مماثلة، خصوصاً بعد توقيع اتفاق الصخيرات السياسي عام 2015 والذي كان يُفترض أن يمهد الطريق لتسوية تنهي الحرب الدائرة في ليبيا منذ العام 2011، والتي كلفت الليبيين آلاف القتلى ونزوح نحو 400 ألف شخص، إضافة إلى خسارة مليارات الدولارات من عائدات النفط، عدا عن الخسائر المادية الناجمة عن الدمار الهائل جراء الصراع وانهيار الكثير من مؤسسات الدولة.
ولم تتأخر مليشيات خليفة حفتر في انتقاد إعلان وقف إطلاق النار ووصفه بـ"التسويق الإعلامي"، بما يشي بنيّة لعدم الالتزام به، وهو أمر سيبقى خاضعاً للضغوط الدولية التي ستُفرض على حفتر لقبول التسوية الجديدة، وهو الذي يبحث عن موقع له في أي مشهد جديد في البلاد. بالتوازي مع ذلك، فإن النقاط الخلافية موجودة ضمن إعلان وقف النار، فالبنسبة لرئيس برلمان طبرق عقيلة صالح يجب تشكيل مجلس رئاسي جديد للحكومة، ليكون بديلاً عن المجلس الذي يرأسه فائز السراج، على أن يكون مقر عمله مدينة سرت. في المقابل، فإن السراج دعا إلى جعل مدينتي سرت والجفرة منزوعتي السلاح في سبيل تحقيق تقدم في الحل السياسي، في حين لم يتحدث صالح عن هذه النقطة.
ولا تتوقف المشاكل الداخلية عند ذلك، فرئيس حكومة الوفاق يواجه تحدياً آخر في مناطق سيطرة الحكومة، مع اندلاع تظاهرات شعبية في الأيام الأخيرة ضد الفساد وتردي الأوضاع المعيشية، ليندفع للإعلان عن سعيه لإجراء تعديلات وزارية قريباً، قد تواجه رفضاً من حلفائه، في ظل توجهات متعددة داخل معسكر الغرب الليبي، وتنازع على النفوذ والسيطرة بين مليشيات مختلفة تجتمع على محاربة حفتر وتختلف في مجالات عديدة أخرى.
يضاف إلى التعقيدات الداخلية، مصالح الأطراف الدولية المتورطة في النزاع، ومنها روسيا التي دفعت في الفترة السابقة المئات من مرتزقة "فاغنر" للقتال إلى جانب حفتر، ولن تخرج من السباق من دون تحقيق أهدافها ولا سيما الحصول على حصة من النفط الليبي، إضافة إلى تركيا التي اعترفت بإرسال مقاتلين سوريين إلى ليبيا لدعم حكومة الوفاق، ووقّعت معها اتفاقيتين أمنية وبحرية، بالتوازي مع مصالح أوروبا المهتمة خصوصاً بملفي الهجرة السرية والنفط، والولايات المتحدة التي تريد موطئ قدم لها في المنطقة.
أعلن السراج عزمه إجراء تعديلات وزارية عاجلة بعيداً عن الإرضاءات والمحاصصة
واتجهت الأنظار في الأيام الأخيرة إلى التظاهرات الشعبية التي شهدتها مناطق مختلفة لا سيما العاصمة طرابلس، ومصراتة والزاوية وسبها، والمطالبة بتحسين الوضع المعيشي المتردي. وزاد الجدل بشأنها بعد قيام مسلحين بإطلاق النار باتجاه المتظاهرين في طرابلس، مساء الأحد، فيما نفت وزارة الداخلية التابعة لحكومة الوفاق صلة المسلحين بأجهزتها الأمنية. وبادرت العديد من التشكيلات المسلحة في طرابلس إلى المطالبة بحماية المتظاهرين ودعم حقهم في الاحتجاج، مثل "لواء ثوار طرابلس" و"قوة حماية طرابلس" و"قوة الردع الخاصة"، في بيانات منفصلة، في خطوة لتبرئة ساحتها من التورط في حادثة إطلاق الرصاص على المتظاهرين. فيما دعت الأمم المتحدة حكومة الوفاق إلى إجراء "تحقيق فوري وشامل" في حوادث وقعت أثناء تظاهرة الأحد، ما أدى إلى سقوط جرحى. وفي مصراتة طالب المتظاهرون "بتشكيل لجنة من ديوان المحاسبة وهيئة الرقابة ووزارة الداخلية لمحاربة الفساد والمفسدين المتغلغلين في الحكومة ومؤسساتها".
إزاء هذا الوضع المتفاقم، أعلن السراج، في خطاب تلفزيوني مساء أول من أمس الإثنين، عزمه إجراء تعديلات وزارية عاجلة "بعيداً عن الإرضاءات والمحاصصة". واعترف بانتشار حالة الفساد في مفاصل الدولة، معتبراً أنه سبب تردي الوضع المعيشي للمواطنين. وبينما طالب "المؤسسة القضائية ومكتب النائب العام باتخاذ إجراءات حازمة وحاسمة مع كل موظف عام طاولته اتهامات بالفساد"، أكد أن إغلاق موانئ النفط على يد مليشيات حفتر "يؤدي إلى أزمات اقتصادية قد نعجز معها عن دفع مرتبات الموظفين في كل ليبيا". واعترف ضمنياً بأن جهوده السابقة لإجراء تعديلات وزارية حال دونها "الوضع الحالي للرئاسي"، مقرا بأن السبب "رغبات البعض في الحصول على مناصب معينة". وهدد السراج باللجوء إلى قانون الطوارئ لفرض حكومة أزمة في حال عدم القبول بتعديلاته الوزارية.
لكن خطابه الذي جاء مع وجود مئات من المواطنين المحتجين في ميدان الشهداء وسط العاصمة، يبدو أنه لم ينجح في امتصاص غضبهم، فإثر انتهاء كلمته تجددت التظاهرات والتي تخللتها هتافات مطالبة برحيل المجلس الرئاسي بما دل على عدم رضا الناس عن كلام السراج الذي تضمّن وعوداً بحلحلة أزمات الكهرباء والماء والوضع الاقتصادي ضمن حزمة من الإصلاحات. كذلك، وفيما دعا عضو المجلس الأعلى للدولة بلقاسم قزيط، إلى دعم خيار السراج في مكافحة الفساد، اعتبر عضو المجلس عبد الرحمن الشاطر، أن كلمة السراج "محبطة ومجرد مسكن للشارع". كما نشر موقع مجلس نواب طبرق بياناً لرئيسه عقيلة صالح، بعد انتهاء خطاب السراج ليلة الإثنين، الذي طالب فيه بـ"حماية المتظاهرين السلميين المطالبين بحقوقهم"، كما طالب بضرورة معاقبة من "أساء استعمال السلطة بحق المتظاهرين السلميين".
من جهتها، قالت مصادر حكومية مقربة من السراج لـ"العربي الجديد" إن الأخير عقد عدة اجتماعات مكثفة خلال الساعات الماضية من أجل إجراء تعديلات على تشكيلته الحكومية بعد أن لقي ذلك رفضاً في السابق من قبل أعضاء بالمجلس الرئاسي وقادة سياسيين من المجلس الأعلى للدولة في طرابلس. ولفتت إلى أن السراج يعيش وضعاً صعباً وضغوطاً بسبب عدم قدرته على تجاوز عرقلة المحاصصات وترضية بعض الأطراف المتنفذة لضمان تمرير تشكيلته الجديدة. وعن إمكانية اللجوء إلى قانون الطوارئ لفرض إعلان حكومة أزمة، أكدت المصادر عدم قدرة السراج إلى اللجوء إلى هذا الخيار. وكشفت أن التعديلات المقبلة ستطاول حقيبة الصحة والاقتصاد والمالية والحكم المحلي.
انتقد المسماري إعلان وقف إطلاق النار، معتبراً أنه مجرّد "تسويق إعلامي" من جانب حكومة الوفاق
على المقلب الآخر، وفي مؤشر جديد على الصعوبات أمام التسوية، انتقد المتحدث باسم مليشيات حفتر، أحمد المسماري، إعلان وقف إطلاق النار، معتبراً أنه مجرّد "تسويق إعلامي" من جانب حكومة الوفاق. وقال المسماري ليل الأحد الإثنين "إنها مبادرة للتسويق الإعلامي وهي ضحك على الذقون و ذرّ الرماد في العيون"، مضيفاً "الحقيقة هي التي على الأرض". هذا الموقف يهدد بشكل كبير إعلان وقف النار والذي يُعد أول تفاهم سياسي منذ اتفاق الصخيرات عام 2015، فمنذ هجوم حفتر على طرابلس في 4 إبريل/نيسان 2019، وفي ظل التدخلات الخارجية التي فاقمت النزاع، فشلت كل المحاولات لوقف الأعمال العدائية.
ولم يعد التدخل العسكري الأجنبي في الصراع الليبي سراً. ففي بداية نوفمبر/تشرين الثاني 2019، أشارت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية إلى أن شركة "فاغنر" الروسية أرسلت نحو مائتين من المرتزقة لدعم حفتر، وتبع ذلك الكثير من الدلائل على وجود هؤلاء إلى جانب حفتر. في المقابل، أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 5 يناير/كانون الثاني 2020، بدء نشر عسكريين في ليبيا بعد موافقة البرلمان التركي على ذلك. وأكدت تركيا منذ فبراير/شباط إرسال مقاتلين سوريين إلى ليبيا لدعم حكومة الوفاق. وفي 20 يونيو/حزيران الماضي، حذّر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي من "تدخل مباشر" للقوات المصرية في ليبيا إذا واصلت قوات الوفاق تقدمها نحو سرت، علماً أن التدخل المصري بالقصف الجوي ودعم مليشيات حفتر غير خفي منذ سنوات.
وفي ظل هذه المعطيات، رأى الخبير في مركز "المجلس الأطلسي" للأبحاث عماد بادي، في تصريح لـ"فرانس برس"، أن تطبيق وقف إطلاق النار وتنظيم انتخابات سيكون "مساراً شاقّاً" لأن القوى المحلية "حذرة، ليس فقط من بعضها، بل كذلك من الأطراف الدولية المتورطة" في النزاع. ولفت إلى أن المنطقة المنزوعة السلاح ستكون "نقطة خلاف"، مضيفاً أن من مصلحة روسيا التي تنشر عدداً كبيراً من المرتزقة في الجفرة وسرت أن تحافظ على حضور في الجفرة، وتقوّض المسار المدعوم من الولايات المتحدة والذي يرمي إلى تقليص النفوذ الروسي. أما الباحث في "المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمن" ولفرام لاخر، فاعتبر في تصريح لـ"فرانس برس"، أن "مصالح الفاعلين الخاصة يمكن بسهولة أن تحبط المحادثات مهما كانت المرحلة التي بلغتها". وقال إن المنطقة المنزوعة السلاح "خطة أميركية وبريطانية وألمانية تهدف لاحتواء التأثير التركي والروسي في الميدان". وأضاف أن روسيا تعارض إقامتها، وكذلك الإمارات "التي تدعم الحضور العسكري الروسي في ليبيا".