طائرة ورقية

10 فبراير 2018
(عمل لـ فرناند ليجيه)
+ الخط -

تراها في يد طفل من الأورغواي، يُطيّرها جَذِلاً في حديقة "المتاهة" القريبة من سكنك، فيما يتحلّق حولَه عشرات الأطفال والشباب. ولأنها المرة اليتيمة التي ترى فيها طائرة من هذا النوع في البلد، فقد تذكّرت ـ لا بدّ ـ مرحلة الطفولة. ثم قارنت بينها وبين طفولة أولادك وأحفادك المُغتالة، ولم تنفكّ عن الغَصَص.

هم هناك، تعوّدوا على الطائرات القاتلة بدون طيار، والأخرى القاتلة بطيار. عكس طفولة جيلٍ تنتمي إليه، امتلأت سماؤه ـ فعلاً ـ بالطائرات الورقية. يصنعها في عطلة الصيف، من الدفاتر القديمة، ويُلصقها بالعجين السائل، على شكل طَبَق [مثلث] أو نجمة [دائرة]، فتُحلّق على سوافي الرمل الذهبية، بمختلف الألوان والأبعاد.

صحيح أن سماء جيلك عبرتها ـ أثناء حربي 67 و73 ـ طائرات من نوع "ميستير"، و"فانتوم" و"ميراج" و"سكاي هوك" و"كافير"، لكنها فترة وانطوت.

وإذا كان الشيء بالشيء يُذكر ويُذكّر، فثمة اليومَ أربعة أجيال من البشر في قطاع غزة، لم يروا طائرة ركاب عابرة في حياتهم. فقط رأوا وخبروا جميع أنواع الطائرات الحربية المصنّعة في ترسانة الجحيم، منذ "كافير" تلك مروراً بعشرات الأنواع الغربية، ووصولاً لطائرة الشبح (إف ـ 35) التي لم يُزلْزَلُوا بصواريخها بعدُ. (هل تنفع هنا الضراعة والطلَب؟)

انعدمت الطائرات الورقية في فضاء قطاع غزة لانعدام الأرض الخلاء. ما تعوّدنا على اللهو البريء به، هو أيضاً سقطَ ضحيةً لزحف العمران واكتظاظ الناس.

ضاقت الطفولة على رحبها، وانحصرت في الشاشات، فانخسف منسوب تصريف الطاقة، وصرت تجد طفلاً يشكو من آلام في الرقبة، أو شابّاً من الكآبة.

ولو سألت، لأُجبت: "حال الدنيا"، و"سبحان من يغيّر ولا يتغيّر".

وإنك لتتأمل هذا الحال "المايل"، وهو، مرة تلو أخرى، يزداد وينحني ميلاناً، وتتخلّلك الغصّة.
فهنا، في برشلونة وأرباضها، يلعب فتيان الأغنياء وفتياتهم بطائرات الدرونز، على اختلاف أجيالها، والطائرة المعقولة منها لا يتجاوز سعرها 400 يورو.

أما هناك، فلا تفارق السماءَ أجيالٌ من طائرات بلا طيار، بزنّها الفظيع وصواريخها الصغيرة الأفظع.

طائرات لملاحقة و"اصطياد" الأفراد، والجماعات، والمباني.

طائرات تراقب وتتابع الأحوال على مدار الساعة. يُسمع صوتها ولا تُرى أبداً (وتلك خصيصتها المُعمّمة، بغض النظر عن النوع والحجم والجيل).

هذا هوَ!

تودّ لو تكتب عن أحد أكثر رموز طفولتك براءة وانفساحاً وشاعرية، فتطلع من الخُرج (والنكبة: فعلٌ مُضارع) كلُّ الأفاعي.

إنها ـ بالاعتذار من الأفاعي ـ "واحة الأفاعي" حقاً.

الواحة التي ستكون ملاذ الصحراويين العرب في المستقبل الوليد والعتيد.
ومن يعش، ير!

لا يرى فحسب، بل تجيء عليه أوقات، ويتمنى العمى.

ومرة أخرى، هو حال الدنيا، الذي لم يُشهَد له ميلان بهذا الانحدار، كمّاً وكيفاً، منذ عقود. أهو زمن "على عينك يا تاجر" وقد جاء؟

وإلا، كيف يُستبدل عدو تاريخي بـ"عدو" جديد، وعلينا أن نصدّق لعبة الاستبدال أو "الاستهبال"، بالأحرى؟

المساهمون