ضحالة تأكل المهنة... وأبناءها

12 ابريل 2016

لم تكن المنازل الصحافية اللبنانية يوماً مؤسساتٍ بالمعنى الفعلي

+ الخط -
ماذا يعني أن تستيقظ صباحاً، وتكتشف أنك ستفقد عملك قريباً، لقرار إدارة المؤسسة المفاجئ إغلاق أبوابها، وأنك قد لا تجد موقعاً ما في سوق عملٍ مغلقٍ، لتعود فتستيقظ، في اليوم التالي، مع خبر استمرار المؤسسة إلى ما لا يعلمه إلا الله؟ قد تغضب أو تضحك أو تتنفس الصعداء بانتظار المفاجأة المقبلة. في كل الحالات، ستوقن، أكثر فأكثر، أن ما تبقى من آفاقٍ للعمل الصحافي ضيقة جداً، وأنك لا تملك أي سطوة على مصيرك.
ماذا يعني أن تكون صحافياً اليوم في لبنان؟ لعل التوصيف الأكثر دقة أن تكون في حالة بحث عن عملٍ، أو قلقٍ من إمكانية خسارته على الأرجح، أو في حالةٍ من وهم العمل، أي أنك تنتج من دون أن تتقاضى راتباً، ولا ترفع صوتاً مطلبياً أو أنك تمضي حياتك في التنقل بين "مؤسسة" وأخرى وبين "فرصة" وأخرى، على أمل أن تكون آخرها هي الثابتة.
مؤسسات محلية تغلق أبوابها، وأخرى تصرف أجراءها أفواجاً، أو تهدد بصرفهم وأخرى تشغلهم بالسخرة في انتطار راتبٍ لا ياتي إلا بالقطارة. مؤسسات عربية أغلقت أبوابها وصرفت أجراءها تعسفاً لأغراضٍ سياسيةٍ، وكأن هذه المكاتب الإعلامية جزء من بعثات دبلوماسية. لا تقف المعايير المهنية أو الحقوقية في وجه "الغضب" السياسي. يدفع العاملون الصحافيون ثمن السياسة وتقلباتها واستفحالها في استخدام الإعلام مطية لها، في وقت تواصل كليات الإعلام تخريج أفواج جديدة إلى سوق عملٍ، يكاد يكون غير موجود.
أين هم الصحافيون من ذلك كله؟ هم من دون شك ضحايا انهيار مؤسساتهم، وفقدانها التدريجي مشروعيتها المهنية والسياسية، باعتبارها تمثل حساسيات إيديولوجية وسياسية، وتؤثر فيها في شكل مواز. لعقود، شكل شارع الحمراء في وسط بيروت الذي كان يضم أبرز الصحف حاوية اجتماعية للصحافة، ومختلف أشكال الإبداع الفكري والفني، وكانت مقاهي الشارع التي أقفلت أبوابها، لاحقاً، مأوى يومياً لهؤلاء. كان الإنتماء إلى فريق عمل إحدى هذه الصحف بمثابة الانتماء إلى بيئةٍ خاصةٍ قادرةٍ على التأثير والتغيير. لم يكن في الوسع تصور بيروت من دون شارع الحمراء، ولم يكن بالإمكان تصور شارع الحمراء من دون مقاهيه وصحفه. لم يكن، أيضاً، بالإمكان تصور العمل الصحافي من دون هذا الاقتناع بأن الكلمة مقروءة، وأنها مؤثرة بالتأكيد.

هل كان ذلك كله من باب الوهم، أو تعبيراً عن رومانسية طبعت مرحلةً ما لم تعد موجودة؟ هل كانت صورة الصحافي الملتصق بهوية صحيفته وخطابها حقيقةً، أم من نسج خيال المرحلة وأبنائها؟
في الواقع، لم تكن هذه المنازل الصحافية يوماً مؤسساتٍ بالمعنى الفعلي، بل شبكات عائلية، يمارس فيها مالك الصحيفة، وأفراد عائلته، سطوة على القرار التحريري. يفترص الطابع العائلي لهذه المؤسسات على الصحافي الاندماج في شبكات الولاء الداخلية، والتي قد تفترض، في طالب الانتماء، مواصفات معينة، خاصة بأصله وفصله وتموقعه المذهبي والسياسي، وغيرها من الميزات الشخصية التي لا علاقة لها بالمهنة. لا يمكن وصف الانتماء إلى المجموعة الصحافية بالاستقرار المهني، فالقدرة على الاستمرار موهبة بحد ذاتها توازي موهبة العمل الصحافي، أو تفوقها أهميةً، إذ أن "الرؤوس تطير" بسهولة، كبيرها قبل صغيرها، والقدرة على الاستمرار تعني، أيضاً، التحلي بدرجةٍ كبيرةٍ من المرونة، والقدرة على الخلق من أشكال الولاء المختلفة للمالك وعائلته، إلى التسلح بدعم هذا السياسي أو ذلك وأشكال أخرى.
على الصحافي، إذن، أن يتقن فن السباحة في هذه التناقضات، بما لا يضمن إستمراريته في كل الأحوال. بات العمل الصحافي يشبه فعل المقامرة، في غياب الأطر النقابية داخل مؤسسات الإعلام وخارجها. ومع قدرة الصحافيين المذهلة على التعايش مع هذا الوضع. لعل المثل الأبرز لثقافة الصحافي المطواع استمرار أعداد كبيرة من صحافيين في مؤسسات إعلامية بالعمل من دون تقاضي راتب، ومن دون المطالبة بحقوقهم البديهية. هل لدينا حل آخر؟ يقولون.
يدفع اليوم الصحافيون ثمن الضحالة التي تنهش مهنتهم، في حين أنهم في حالة من شبه التحالف الضمني مع هذه الضحالة. يتعايش في سلوك هؤلاء نمطان نقيضان: مقاربة ليبرالية ناقدة، جادة أو شعبوية، للسياسة أو بعض وجوهها، بحسب الانتماء السياسي للصحافي ووسيلته، ومقاربة مذعنة لسياسات إدارة وسيلة الإعلام، وتقلباتها وأهوائها. هل هنالك ما يسمى خطاً تحريرياً، أو نقاشات تحريرية جادة، أم عملاً نقابياً يؤطر حقوق العاملين، ويضع حدا لتغول الإدارة؟
كان بالأمس الدخول إلى هذا العالم مغامرة محفوفةً بشغف المهنة وآفاقها. بات اليوم الخروج من هذا العالم مغامرة أخرى، أكثر واقعية وجدوى من شغفٍ لم يعد يجد له مكانا.

دلالات
A6CF6800-10AF-438C-B5B5-D519819C2804
فاطمة العيساوي

أستاذة لبنانية في جامعة إيسيكس البريطانية. ترأست بحثا في تأثير عملية الانتقال السياسي على الإعلام المحلي في دول الثورات العربية. صحافية مستقلة ومدربة وخبيرة في التشريعات الاعلامية في العالم العربي.