فلاحة عرفت كيف تحكي شجنها من وراء الغناء، وتأملها وهي تغني، وكأنها تحكي لسريرتها الخاصة جدّاً في "حكم علينا الهوى":
"قالوا المحبة: قدر
أنا قلت: جمّعنا
والقرب تمّم لنا
وادّى الحياة معنى".
أو وهي تغني وتحكي أيضاً من وراء الشوق في "ليلة العيد"
"قلوله يا جميل بدري
حرام النوم في ليلة العيد".
ولا عيد يمرّ على مجروح أو عاشق أو ملهوف أو حتى منسي من الأهل والخلان، إلا ويكون في حضرة تلك المعاني، وكأن في شوق صوتها بركة متممة للعيد، وفاتحة لأبواب الوصال.
عزيزة هي في الوصل، وإن وصلت، ففي الوصل أخلصت، وقالت الأعماق إخلاصها في بحّة الصوت. "لغيرك ما مددتُ يدا" رحم الله كاتبها طاهر أبو فاشا:
"فوا كبدا إذا أضحى
وإن أمسى فوا كبدا".
ولها مع أبي فراس الحمداني حكاية:
"أراك عصي الدمع شيمتك الصبر
أما للهوى نهي عليك ولا أمر؟".
بعثرت شجن صوتها على نص واحد لأبي فراس مسافة أربعين سنة بألحان مختلفة، في سنة 1928 بلحن أبو العلا محمد يحمل لوعة وآثار الألحان القديمة، فصبغت الكلمات بالسكنات والمواجع، ثم بلحن زكريا أحمد في منتصف الأربعينيات لم يختلف كثيراً، إلى أن أتى السنباطي فغنته في 1965 بألحانه.
نعم أم كلثوم على يد السنباطي تصحح لوعتها وتقف بقدم راسخة وتتجاوب مع المعاني الشعرية للقصيدة، وكأنها تعيد بناء القصيدة من جديد على حنجرتها بعد أربعين سنة، فتأتي المعاني بآفاق أخرى مختلفة عن اللحن الأول. حاول أن تسمع اللحن الأول واللحن الأخير، ستجد أن هذه السيدة لا تغني فقط لمجرّد الغناء، بل تعيد ترتيب بناء حنجرتها وفقا لما وصلت إليه من إحساس ومعرفة بمرامي القصيدة والشعر، سيدة تتعلم بحنجرتها أيضاً، وفي حنجرتها تلخص الإحساس.
أم كلثوم هي تلك الأم الكريمة التي لامست مشاعرنا دون أن تتركنا لميوعة الإحساس، ودون أن تتركنا لقسوة الجَلد أيضاً. تدللت بحنجرتها حتى حبّبتنا في الصبابة واللوعة، وعرّفتنا كيف نكتم في الفؤاد العشق دون أن ننكسر، هي حقاً: فلاحة ملكت.
"إذا مت ظمآناً
فلا نزل القطر".
من يستطيع أن يقف أمام جبال شجنها وهي تقول: "يا صحبة الروح" لطاهر أبو فاشا أيضاً. ومن يقف أمام دلال غنج الصوت في "القبلة القبلة القبلة" أو وهي تغني وتذوب في انتظار حلاوة وسكْر اللقاء في "هقابله بكره". أما مع "ظلموني الناس" فهي السرّاء للمظلوم، لمظلوميتنا. هي تمس جروحنا بالغناء. هي لا تغني، هي تقول ما عجزنا عن قوله، هي تغنيه ذهباً رائقاً.
وحينما تصل إلى "بلد المحبوب"، فيعجز لسان العاشق عن البوح بمكنونه، فالوجْد قد زاد عن حدّه، والصوت غامض كحزن النيل، والقلب معك وليس معك، لأنه سهران هناك، في بلد المحبوب. لقد استطاعت هذه السيدة أن تقول كل أشواق وأحزان العرب من شرقهم لغربهم. قالت قلوبنا وهي في عز صباها في تلك الأغنية الأثيرة "بلد المحبوب"، وفي الصبا، يكون القلب كالندي، مبهجاً وسيالاً، والحزن يكون قدره المرصود.
"يا مسافر على بحر النيل
أنا لي في مصر خليل".
هل النيل كما هو؟ أم اختلط بما ليس منه؟
* كاتب من مصر