فتحتُ نافذتي، كان كلُّ شيءٍ هادئاً
والبكاء لم يعد يتكرَّر
جيرارد بيرفال
بعيداً عمّا كان بيتي في زمنٍ ما
متعفِّناً في الظلِّ
أترقَّبُ
أن تمضي الساعات وتتوقَّفُ
عن إيلام صدري وتجريحه
أترقَّبُ
أن تعبري ببطءٍ دقائقي
والفضاءَ الذي يبدو كعزلةٍ ذابلةٍ معي وبدوني
أسكن اللامحسوس
الهواءَ الذي لا يُتنفَّسُ
مرارةَ أن ألمحكِ من بعيد
أثملُ يوميّاً وأشربُ
الألم
حين لا أسمعكِ
جداراً حملتُ من النحيب
لكنَّ الأشياء أصيبت بالصمم
الليل يهبطُ ويثقل
وأنا أنامُ من الفتور
وأصحو فجأة:
كان صوتها يناديني
صوتها هو اسمي الملفوظ من بعيد
وبالكاد كان أثراً من الضوضاء
حلمٌ منتشرٌ قادم من الظل
صورةٌ تتلاشى
حين نفكِّرُ في بعضنا
صوتها هو اسمي
هو أنا
مختزلٌ
في صرخةٍ مدفونةٍ في الصمتِ
[الساعة التي تمتدّ بعيداً]
الآن، والليل ظلّ زهرة لنبتةٍ آكلة اللحوم
وكلّ ومضةٍ في السواد
تستدعي قروحاً تنهك الجسد
الآن والصمتُ والنهار
رمادٌ يسكنني،
ستكونين طوقاً من الزهور والخدوش
ستكونين خفيفة مجهولة في أيدٍ أخرى
وحين تفكِّكني الريح وتبعثرني
سيُنزل بي شعرك فضيحة
وستهزُّ منحدراتك إيقاع ضحكتك السلس
والآن ستكون نقطة في الزمن المطوي للأبد
وسيُغرق صدى كعبك العالي البيتَ
وستجرِّبين قلم الحمرة القرمزي
وعطوراً عذبة رقيقة
وستكونُ المسافةُ الساعة التي تمتدَّ بعيداً
لما نلمسه بالنظرة
والآن
فيما أستهلك نفسي في الهواء المخلخل
وتمسحين المكياج ببطء عن وجهك
سيحرق عُريُّك ما تحت جفني
والآن واسمك محاطٌ بالغبار والصمت
لن تتجسَّدَ كلماتي حين أناديكِ
أي نبوءةٍ خالدةٍ ستكونين
دون أن تظهري حين أفكِّرُ بك
الآن وفقط الآن
الآن
أتحطَّم.
[المشهد الأخير]
لو أنَّني أقولها أخيراً
لو أنَّ كلماتي صارت تظاهراً ورماداً
لو أنَّ غُبار الرحلة يختزل التواري والصمت والعار
لو رحلت الأيَّام السعيدة والرؤى، ولم نرَ أبداً
ذلك الوهم السفليَّ
لو أنَّ المُحصِّلة
نقودٌ نحاسيَّةٌ مزوَّرة
مصابيح محترقة ولطخات
مواكب جنازات لا يبدو منها سوى صلبان سوداء نافرة
لو أن الريبة والأشواك
لثانيةٍ
لا يسكنون اسمي ويحرقونه
لو أنَّ الكلمات والسجود والهزيمة
تُضيع المعنى
لاستطعت
لكنَّي أداةٌ غير نافعة
طائر عقعق يصعد ليصل سماء الشمال
يحاكمني
يجبرني على إكمال
خطوط اليد المشوَّهة
الابتسامة واللفتات اللطيفة
الميتات اليوميَّة
لو تُرك التذمر والأنوف والمشانق مكانهم
لو حلَّت اللعنة الثقيلة أخيراً في كل شيء
لو أنَّ الريح تهبُّ هادمةً العقم
وما أنا عليه
لو أنَّ ستار المهزلة
يُرفع
عن المشهد الأخير
[حمّى]
حمَّى وعدوى
كان اسمه
في ارتعاشة الهواء
ضوءاً خافتاً
وطيوراً صامتةً
كانت الهزيمة
شارع في شيكاغو
شقراء تعبر الشارع
فخذان ثابتان
تهزُّ الريح
فستانها
وتُحدثُ بلبلةً
صخب:
رجال إطفاء يعبرون
Central Park
حُزني
وقع خطواتي
وأوراقُ الشجر الساقطة
[الجرسُ من جديد]
رنَّ الهاتف وبالكاد
حرَّك القطُّ أذنيه
الجرس
هواءٌ متوّتِّر
اهتزاز الأثاث
في صمته المحرِّض
الجرسُ من جديد
وفي تلك الأثناء
تهتزُّ السماعات
أمام لامبالاة الجدران
والظلال.
رنينٌ رابع.
وبعد ذلك فراغ
كاشف المكالمات والأرقام
الذي سينبِّئ بموت أحدهم
صريرٌ يستمر لثوان
أمام موقف الكآبة.
سراييفو
الريح باردةٌ تحرق
فيرتجفُ من ينتظرُ
مرورَ الترام الأصمِّ
ينحني المُسنُّون
رُؤوسُهم في الزجاج
وفي وجوههم
مللٌ من الحياة
نظراتُهم تملأ الزجاج ضباباً
ضائعةً لامبالاتهم البعيدة
سراييفو شمسٌ
محشورةٌ في قذائف هاون
في الواجهات والأطلال
شيءٌ شفَّاف يُزعج درب الطيور
ويسقط على "سنيبر ألي"
غازاتٌ وتلالٌ وكمائن
لا شيء يدهشني ولا يعطِّلني
إن قلتِ إنك ذاهبة
وإنك لا تعرفين سوى الرحيل
مياه "الميلجاقا"
تجري وقد شاخت
سيغمقُ مجراها تحت جسر "برينسيب"
هنا وبطلقة صائبة
قتلوا الأرشيدوق
مُتنا
حتَّى تقيَّأنا حيوات أخرى مرَّة واحدة
على عتبة كنيسة أرثوذكسية
أحدهم يراقب مستفيداً
من نور الشموع
المشاعل انقرضت
وبقي الوعاء فارغاً
Wellcome to hell
يُحذِّرون
غرافيتي زمنٍ آخر
لم يبق شيءٌ من الجحيم
فقط هذا الهدوء البطيء
نكبِّرُ لاحقاً ما يسكننا
تقفز القطط على أكياس القمامة
تنمو عشبة بين شواهد القبور
مرَّ الترام
وترك اهتزاز الهواء صوتاً
كان ذكرى
أو كان
لا شيء
[ظلّ]
متَّهمٌ أنا
أنكسر في كل موقع
أصير ظلًّاً
ماضياً
القسطنطينية (1)
الزوارق تصلُ البحرَ الأبيض المتوسط، وتنتظرُ
إرشادات أضواء المنارة
إنَّها إسطنبول
مطرٌ على أحجار مسجد قديم
الأذان، ألسنةٌ غريبةٌ، نورٌ ملوَّنٌ
أحاول أن أُعيد تشكيلَ وجهك
لكنَّه يفرُّ منِّي
أصمتُ
ثمَّةَ دخان يتحرَّك بين الضباب وهواء البوسفور البارد
رجلٌ ينامُ مهزوماً دوماً
نفذت رائحة البابونج،
قلتِ
ونفذَ الهواء لوحدهِ بغتةً
الآن ثمَّة وجهٌ على الماء وعلى السماء الرماديَّة
وسفينةٌ تجتازُ المضيقَ متَّجهة للبحر الأسود
القسطنطينية (2)
على جسر البوسفور صيَّادٌ
ثبَّت أربعة أعوادِ قصب
جالساً يضبطُ إرسال الراديو
يُراقب المشاة
الجوُّ غائمٌ باردٌ
قطرات المطر تصفع وجه الماء
والكون
إحدى الصنارات تثقبُ
القوَّةَ التي توحِّدُ الجميع وتفرَّقهم
نفخاتٌ من الغرق واليأس
اختناقٌ بطيء
والآن السمكةُ مع الصيّاد
يهزُّ الريحَ بجسدها
تتجمع النوارس حولها
يقذفها إلى السماء
قشورها تلمع كمعدن
عيناها الصغيرتان تحدِّقان في البحر
أيُّ رفاهية!
لكن
قبل أن تصل لأقصى ارتفاع
يخدش منقارٌ زعانفها
يمزِّقُ جسدَها ويبتلعُ
خلال ثانيةٍ أحشاءها
أحدهم فكَّرَ سرّاً بالرب
صيَّاد البشر القاسي
القسطنطينية (3)
"أدرين كابي"
القرن الرابع، كنيسةٌ بيزنطيَّةٌ
خارجَ أسوار ثيودوسيو
ليست سوى غبارِ أطلالٍ
كان جدِّي العجوز يذهبُ
إلى عذراء كارمن في الحادية عشرة صباحاً
أكان يتلقَّى القربان، أو يسمع القدَّاس؟
أضواءٌ من النوافذ كانت تسقط على الهواءِ الطلق
إنَّه يسوع
يُضاعف عدد الأرغفة
هناك بضع سمكات
وسلال فارغة
أحدٌ ما على جانبي يقول "يا رب"
لكن لا صوت في صحن الكنيسة، بل صدى من تحت اللامبالاة
مسيح في صورةٍ نصفيَّة
المرايا اهترأت بفعل الزمن
والفسيفساء الصغيرة
حيث كان المُعمِّدُ يمسح طبقةً من الرمال عن مدافع الهاون
كان الجدار مُذهَّباً ولازورديّاً
والآن القطران المخفي منذ خمسة قرون خلف أيقونات الرسل والقديسين
هو زعيم وسيد المُعزِّي
علاماتٌ يونانية داكنة محدَّدةٌ بجبص وكلس
شقوقٌ لا مرئية
تعالوا إلي أيها المعزُّون،
تقول النقوش الميتة
كانوا يُقشرون القباب والطوب والحجارة
مقابل أن يشفى المفلوجون
وهكذا فكَرتُ بالأبيات الختامية:
أجاب أبي: "هذا مجرد زينة؛
النقشُ هو أنت" وأشار إلى صدري.
مرَّةً أُخرى في الصور
مرَرْن ورحَلن
ببساطة
وتركن خلفهنَّ علامةً حميميَّةً من صلبان
وميِّتاتٍ أُخريات
موصوماتٍ بالصمت
لم يعد لوجوههنَّ وجود، ولا لأسمائهنَّ
بالكاد عطرٌ يُذكرُ
ندوبٌ وأنقاض
هزيمة
انتهيْنَ بها
رأيتهُنَّ مرَّةً أُخرى في الصور
فرحات يضحكن
كان اليقينُ يعبرُ
حركاتهنَّ العذبة
تتصدَّعُ الأرضُ
تُصدر صريراً
من جوهرةٍ
هي شمسٌ تشرق بين نهودهنَّ
من فستان من موضة العشرينيات
يظهرُ في تلك الصورة
من شعرٍ متموِّج
ينسدل فجأة على آذانهنَّ
تيكَ اللاتي احتضنَّني مرَّةً
في أحضانٍ شائكةٍ وناعمة
وما بقي من حصرمٍ الآن
يَزِنُ ما تُضيئهُ الشمس من غبار
اليوم حيثُ ينقُصُني الهواء
إن كنتُ أتذكَّر
الأشياءُ التي فقدت نضارتها تخدش الرطوبةَ
والأشياءُ التي تخرجُ للممرِّ، تقعُ
أبصق على فشلي الدائم
أمامي وخلفي وحولي
ثمَّة علامات لسقوطٍ بائسٍ
القدر يرسم لي ألجِمةً
تحدِّد فكري
ليفعل ما يحلو له
طالما أنَّ النتيجة واحدة:
الريحُ ستنتزعُ حطامَ السفينة
* شاعر من المكسيك (1982)
** ترجمة عن الإسبانية: غدير أبو سنينة
- العناوين بين الأقواس المعقوفة من وضع المترجمة، إذ أن القصائد في الأصل بلا عناوين.