تُبدي إسرائيل حذراً واضحاً في تعاطيها مع نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة في أوروبا، والتي أفضت إلى صعود أحزاب اليمين المتطرف، ذات الماضي النازي، وتولّي بعضها مواقع متقدمة في الحكومات الأوروبية. وتحرص الحكومة الإسرائيلية على الحفاظ على مسافة من المنظمات اليهودية الأوروبية، والتي انتقدت بشدة السماح بمشاركة أحزاب اليمين المتطرف الأوروبية في الحياة السياسية، ودعت إلى مقاطعة الحكومات الأوروبية التي تسمح بمشاركة هذه الأحزاب فيها. ويحمل صمت حكومة بنيامين نتنياهو تحديداً إزاء انضمام حزب "الحرية" النمساوي اليميني المتطرف إلى الائتلاف الحاكم الذي سيتولّى مقاليد الحكم في فيينا بعد الانتخابات التشريعية الأخيرة، دلالات واضحة. فعندما اتصل نتنياهو بسيباستيان كورتس، والذي تم تكليفه بتشكيل الحكومة النمساوية الجديدة، تجنب رئيس الوزراء الإسرائيلي الإدلاء بأية إشارة إلى قرار كورتس ضم حزب "الحرية" إلى ائتلافه الجديد.
ويعد موقف نتنياهو مخالفاً لما أقدم عليه رؤساء الحكومات السابقون في تل أبيب. ففي أعقاب الانتخابات التي أجريت في النمسا في عام 2006، والتي أفضت إلى مشاركة "الحرية" في الائتلاف الحاكم في النمسا، احتجت إسرائيل بشدة، وقامت بإعادة سفيرها من فيينا، وقلصت مستوى العلاقات الدبلوماسية مع النمسا. لكن حالياً لا يوجد أي مؤشر على أن نتنياهو سيتخذ أياً من الإجراءات التي أقدم عليها سلفه إيهود أولمرت، على الرغم من الضغوط التي تُمارسها التنظيمات اليهودية الأوروبية لاتخاذ موقف إزاء انضمام حزب "الحرية" إلى الحكومة النمساوية. وقد حرص قادة المنظمات اليهودية الأوروبية على إعداد وثائق تدلل على "الطابع النازي والتوجهات اللاسامية" التي تحكم أحزاب اليمين المتطرف، على الرغم من حرصها على بناء علاقات قوية مع أحزاب اليمين في إسرائيل ودفاعها عن المشروع الاستيطاني.
وفي خطوة تهدف إلى محاصرة حكومة نتنياهو، دأبت المنظمات اليهودية الأوروبية على تزويد وسائل الإعلام الإسرائيلية بشواهد تدلل على الطابع النازي لحزب "الحرية". فقد نقلت صحيفة "هآرتس"، أمس الأحد، عن قيادات يهودية أوروبية قولها إن زعيم حزب "الحرية"، هاينز شتراخا، قد وضع عند افتتاح الدورة النيابية للبرلمان النمساوي في أغسطس/ آب 2016 على بزته "زهرة زرقاء"، وهو الشعار السري للحزب النازي النمساوي في ثلاثينيات القرن الماضي، إلى جانب حرص الحزب على عدم التنصّل من ماضيه النازي. ومما سيقلص هامش المناورة أمام القيادة الإسرائيلية حقيقة أن شتراخا سيتولى ثاني أهم موقع وزاري في الحكومة النمساوية، إذ من غير المستبعد أن يحصل على حقيبة الخارجية. ويرجع الكاتب الإسرائيلي، عوفر جدوت، إصرار نتنياهو على عدم التعبير عن موقف إزاء صعود أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا إلى "الشراكة" التي تربط هذه الأحزاب بحزب "الليكود" الذي يقوده، مشيراً إلى أن ما يحفّز هذه الشراكة هو عداء "الليكود" واليمين الأوروبي المتطرف للإسلام "المتطرف"، وموجات الهجرة الإسلامية والعربية للقارة العجوز. وفي تحليل نشرته "هآرتس" أمس، أشار جدوت إلى أن اليمين الديني المتطرف في إسرائيل يشارك "الليكود" حماسه للتعاون مع أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا، بفعل مواقف قادة هذا اليمين حيال المشروع الاستيطاني في الضفة الغربية. وأشار جدوت، بشكل خاص، إلى الزيارات التضامنية التي قام بها شتراخا إلى المستوطنات ودفاعه عنها وانتقاده موقف الاتحاد الأوروبي الرافض للبناء في المستوطنات، فضلاً عن تعهده بنقل السفارة النمساوية إلى القدس المحتلة في حال تولّى رئاسة الحكومة في النمسا.
وما ينطبق على شتراخا ينطبق على زعيم اليمين المتطرف في هولندا، خيرت فيلدرز، والذي يزور بشكل دوري مستوطنات الضفة الغربية، وتربطه علاقات تنسيق وصداقة مع عدد من قادة المستوطنين، خصوصاً الجنرال آرييه إلداد، والذي لم يتردد أخيراً في المبادرة لإجراء مقابلات معه ونشرها في عموده الأسبوعي في صحيفة "معاريف". وعشية الانتخابات الرئاسية الأخيرة في فرنسا، زار ممثلون عن حزب "الجبهة الوطنية" إسرائيل، بناء على دعوة من حزب "الليكود"، وأطلقوا تصريحات تعبر عن تأييدهم المشروع الاستيطاني. وكشفت قناة التلفزة الإسرائيلية الأولى عن أنه، وعلى الرغم من أن وزارة الخارجية الإسرائيلية تتجنب التواصل المباشر مع قادة اليمين المتطرف في أوروبا، إلا أنها، في الوقت ذاته، تشجع أحزاب اليمين الإسرائيلي على التواصل والتعاون معها. نظرياً يبدو هامش المناورة المتاح أمام حكومة نتنياهو محدوداً، بعد بدء الحكومة النمساوية الجديدة ممارسة مهامها، إذ إنها من ناحية معنية باستغلال نافذة الفرص المتمثلة في استغلال القواسم المشتركة مع الحكومة التي سيلعب حزب "الحرية" دوراً مهماً فيها، وفي الوقت ذاته تخشى تبعات اتساع الشرخ مع المنظمات اليهودية الأوروبية التي تطالب بنزع الشرعية عن أية حكومة أوروبية تشارك فيها أحزاب يمينية ذات خلفية نازية. لكن هناك شكوكاً في إمكانية نجاح قادة اليهود الأوروبيين في دفع نتنياهو لتبني مواقفهم، إذ إنه ينطلق من افتراض مفاده أن أوروبا ستكون في المستقبل تحت حكم اليمين المتطرف، ما يعكس أهمية بناء العلاقات مع هذه الأحزاب.