أحبّ الغزي صلاح قديح صناعة الأفران الطينية مذ كان صغيراً. واليوم، باتت هذه الأفران مطلوبة في غزة بسبب انقطاع التيار الكهربائي والغاز
يُسمّي صلاح جمعة قديح (38 عاماً) الأفران الطينيّة التي يصنعها بأفران الطين السعيدة لأنها تسعد العائلات الغزية، خصوصاً أنها لا تعتمد على الكهرباء والغاز اللذين ينقطعان باستمرار في قطاع غزة نتيجة الحصار الإسرائيلي والأزمات السياسية والمعيشية وغير ذلك. غالباً ما تراه يتنقل من منزل إلى آخر لتركيب الفرن الطيني.
قبل نحو 20 عاماً، بدأ بصناعة الأفران الطينية لسكان البلدات شرق مدينة خانيونس جنوب القطاع. وفي الوقت الحالي، امتد نطاق عمله إلى كل محافظات قطاع غزة، وهو يفتخر لأنه ورثها عن والدته تائبة البالغة من العمر 72 عاماً، وجدته صبيحة التي توفيت قبل عقد من الزمن.
في طفولته، كان قديح يستمتع بالجلوس قرب والدته وجدته خلال صنع الأفران الطينية لسكان البلدات الشرقية في خانيونس وبعض منازل مخيم خانيونس (الجزء الجنوبي من قطاع غزة). كان يتابع كيفية صنع الفرن الطيني ومكوناته محاولاً تقليدهما سراً من دون أن ينجح. وفي بعض الأحيان، كان يوبخ من قبل والدته إذا ما اكتشفت الأم الأمر وتسبب بفوضى في المكان. بعدها، اتخذت قراراً بتعليمه.
في البداية، أتقن قديح صنع أكواخ طينية صغيرة للبط والأوز التي يحتاجون إليها خلال فصل الشتاء. بعدها، تعلم بناء أبراج الحمام الطينية القديمة في بلدة بني سهيلا شرق مدينة خانيونس، ثم استطاع صناعة أول فرن طيني وهو في 17 من عمره، ليبدأ العمل بها بعد عام.
يقول قديح لـ "العربي الجديد": "كثيرون يفتخرون بأنهم ورثوا مهن آبائهم وأجدادهم. وعندما يسألونني، أقول لهم إنها مهنة والدتي وجدتي مفتخراً، الأمر الذي يثير استغرابهم، إذ ينتظرون سماع أنها مهنة جدي أو والدي". يضيف: "أفتخر كثيراً بوالدتي وجدتي اللتين صنعتا أفراناً طينية تراثية فلسطينية". ويشير قديح إلى أنه يصنع أفراناً أصغر من تلك القديمة وأكثر متانة وقوة، وتعدّ سهلة التركيب بالمقارنة مع الأفران التراثية كبيرة الحجم.
كان قديح يعمل في مجال النقل وغيره من المهن المؤقتة في ظل عزوف الناس عن الأفران الطينية بين عامي 2007 و2012، إضافة إلى صناعة وتركيب الأفران لعدد قليل من الناس. بعدها، بدأ الناس يعودون إلى الأفران الطينية. وخلال العامين الأخيرين، أصبح الكثير من الأهالي يطلبون منه صناعة وتركيب أفران طينية لهم، مضيفاً أن "الأفران الطينية كانت جزءاً من حياتنا في وقت سابق للطهي والخبز وإعداد الحلويات. للأسف، أشقائي لم يتعلموا المهنة معتبرين أنه لا مستقبل لها. في فترة من الزمن، اعتقدت أنهم على حق. لكن اليوم، عرفت مدى أهميتها. الناس في القطاع منكوبون، وقد يحرمون من الخدمات الأساسية في أية لحظة. وهذا الفرن له أهميته في كل وقت وزمان".
تشكّل هذه الأفران بهجة لبعض الناس في غزة الذين يتوقون لمذاق الأكلات الشعبية الفلسطينية المصنوعة من خلال الأفران التراثية، بحسب قديح. يقول إن عمله يحتاج إلى دقة. بداية، يضع البلاطة الأساسية، ثم ينقع الطينة على مدى يومين مع المياه والشعير، ثم يتم وضع التبن عليها لتتماسك أكثر ويتركها تحت أشعة الشمس. في اليوم التالي، يصنع شكلا دائرياً ثم ينتقل إلى صنع رأس الفرن وبناء المداخل بشكل قوي، ويتركه ساعات تحت الشمس. يصبح الفرن جاهزاً بعد يومين. ويستغرق تركيبه في المنازل نحو نصف ساعة. لكن لا يمكن استخدامه قبل تماسك الطين، أي بعد نحو ثلاثة أيام.
زادت شهرة قديح في صناعة الأفران الطينية بسبب تصميمه أفراناً يمكن وضعها في أية زاوية في المنزل، وصار له زبائن من كل أنحاء قطاع غزة. لكن في فصل الشتاء، تقل صناعة الأفران الطينية بالمقارنة مع فصل الصيف بسبب تدني درجات الحرارة وبالتالي تأخر تماسك الطين.
يبقى الفرن الطيني صالحاً للاستخدام ما بين ثلاثة أعوام وستة، بحسب الاستهلاك. ويقدر سعر الفرن الواحد بنحو مائة شيكل (نحو 30 دولاراً أميركياً). وبالنسبة لسكان القطاع، يعد أرخص ثمناً من أنبوبة الغاز التي يصل سعرها إلى 57 شيكل (نحو 17 دولاراً أميركياً)، ولا يحتاجون إلى غير الأخشاب. لدى قديح ولدان وثلاث بنات. يرافقه ولداه اللذان يستمتعان بمشاهدة والدهما خلال صناعة الأفران، ويحاولان تقليده في بعض المرات في المنزل. ويرغب الأب في تعليمهما المهنة عندما يكبران.