صفقة الغاز الإسرائيلي-المصري: لماذا هي الأخطر منذ كامب ديفيد؟

21 فبراير 2018
تحوّلت مصر من دولة مصدرة للغاز لمستوردة(خالد دسوقي/فرانس برس)
+ الخط -
تخفي صفقة تصدير الغاز الطبيعي الإسرائيلي إلى مصر التي أُبرمت، أول من أمس الإثنين، بين شركتي نوبل الأميركية وديليك للحفر، وشركة دولفينوس المصرية للطاقة التي يترأسها رجل الأعمال علاء عرفة المقرب من نظام الرئيس المخلوع حسني مبارك، تفاصيل سياسية في خلفياتها أعمق بكثير من الآثار والاعتبارات الاقتصادية التي تحدثت عنها وزارة البترول المصرية وحكومة الرئيس عبدالفتاح السيسي وأذرعها الإعلامية للدفاع عن الصفقة التي تُقدر بنحو 15 مليار دولار. فالعقد النفطي غير المسبوق الذي يتزامن مع مرور 40 عاماً على اتفاق كامب ديفيد، يربط الأمن النفطي لمائة مليون مصري بدولة الاحتلال، والأخطر أن توقيعه ينمّ عن تعاطي الإدارة المصرية السياسية، ومن خلفها شركة "دولفينوس" المصرية المقربة من السلطة، مع دولة الاحتلال كـ"حليف استراتيجي"، أو على الأقل كطرف يؤتمن جانبه، وهو ما يترجم ما وصلت إليه العلاقات بين القاهرة وتل أبيب، في ظل رئاسة عبد الفتاح السيسي. علاقات دافئة لم تنقطع عملياً منذ كامب ديفيد، إلا لبضعة أشهر بعد الثورة المصرية، قبل أن تعود إلى مستويات قياسية منذ إطاحة الرئيس محمد مرسي.

لكن حكومة السيسي التي بلغت أقصى درجات التطبيع مع إسرائيل منذ توقيع معاهدة السلام قبل 40 عاماً، تخفي الكثير من تفاصيل المفاوضات السرية مع إسرائيل، والتي امتدت على مدار ثلاث سنوات، قبل أن تحقق لإسرائيل مبتغاها بتصدير الغاز الفائض عن حاجتها وغير الممكن التصرف فيه بالتصدير إلى دول أخرى كتركيا أو قبرص، بسبب عراقيل تقنية تجعل التصدير لمصر هو الحل الملائم اقتصادياً.

صراع حقول الغاز والحدود البحرية
ما يخفيه نظام السيسي يبدأ من تفاصيل ما جرى بين مصر وقبرص وإسرائيل أواخر عهد مبارك، قبل ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011، وتحديداً منذ عام 2004 عندما تم ترسيم الحدود البحرية بين مصر وقبرص وتقاسم المياه الاقتصادية بين البلدين بالتساوي، وسمحت هذه الاتفاقية لكل من قبرص وإسرائيل بالمسارعة لاستغلال حقول غاز طبيعية عملاقة في مناطق تؤكد تقارير جغرافية وملاحية مصرية وأميركية أن النقاط الحدودية للدول الثلاث "تتداخل فيها بما لا يعطي حق الملكية المطلقة لأي طرف".

وسارعت إسرائيل بعدما قامت بترسيم منطقتها الاقتصادية مع قبرص من دون الاعتداد بحق مصر في مراجعة ذلك، إلى إعلان اكتشاف حقل ليفياثان العملاق شرق المتوسط (المصدر الرئيسي لتصدير الغاز اليوم إلى مصر)، على الرغم من ابتعاده مسافة 235 كيلومتراً عن آخر نقطة ساحلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهي حيفا، وابتعاده 190 كيلومتراً فقط عن ساحل رأس البر المصرية، بحسب دراسات أجراها الباحثان المصريان خالد عودة ونائل الشافعي.

هذه الدراسات كانت محل دعوى قضائية أقامها الدبلوماسي المصري السابق إبراهيم يسري أمام القضاء المصري عام 2012 لإلزام رئيس الجمهورية المنتخب آنذاك محمد مرسي بإعادة دراسة الاتفاقية الموقعة مع قبرص، وإبلاغ الهيئات الأممية بتعدي إسرائيل على المياه الاقتصادية المصرية، واستفادة بعض الشركات التي سبق وأجرت أنشطة استكشافية في المنطقة من استمرار تبعية مناطق بعينها لقبرص وإسرائيل على الرغم من قربها أكثر للشواطئ المصرية، فضلاً عن اعتمادها على حدود افتراضية غير معترف بها دولياً للمياه الإقليمية الإسرائيلية، وهو ما دفع مجلس الشورى ذا الأغلبية الإسلامية في مارس/ آذار 2013 لتبنّي مشروع مبدئي لإلغاء الاتفاقية أو تعديلها لتأمين المصالح المصرية.

لكن المشروع البرلماني بإلغاء الاتفاقية ذهب أدراج الرياح بعد الإطاحة بحكم مرسي بانقلاب عسكري، ليبدأ السيسي سياسة جديدة إيجابية تجاه إسرائيل وقبرص واليونان، تمادياً في الخصومة مع تركيا، وبدأ فور عزل مرسي محادثات جادة لإغلاق ملف الحدود البحرية مع قبرص، ليس بالتعديل كما كانت تريد حكومة مرسي، بل بتفعيل ما كان يخشى مبارك تفعيله، إذ كان الأخير حذراً ويرى تأجيل حسم ملف الحدود وتقاسم ثروات المتوسط في المناطق المتشابكة في المتوسط لحين تسوية النزاعات التركية اليونانية من جهة، ولعدم التورط في الاعتراف بحدود المياه الإقليمية المزعومة لإسرائيل، من جهة أخرى.

من الخصومة للتحالف
السيسي جاء بحسابات مخالفة لمبارك، فهو لا يتعامل مع إسرائيل كخصم إقليمي، بل كحليف استراتيجي وأمني وعسكري، وفي الوقت نفسه يتعامل مع تركيا كخصم سياسي واستراتيجي على الرغم من محاولات تصفية الأجواء على الصعيد الاقتصادي والتجاري. لكن عدم تحقيق أي تقدّم على صعيد القضية الفلسطينية منع السيسي من المبادرة لترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، بحسب مصدر دبلوماسي رفيع المستوى، أكد لـ"العربي الجديد" أن ترسيم الحدود البحرية كان مطروحاً على طاولة النقاش المصرية الإسرائيلية منذ تولي السيسي السلطة، لكن مصر كانت تطالب بتأجيله لحين حلحلة الوضع الداخلي الفلسطيني، واستقرار الدولة الفلسطينية، التي يحيط الغموض بحقوقها البحرية التاريخية والجغرافية حتى الآن.

وأكد المصدر الدبلوماسي أيضاً أن البديل لترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل كان يتمثل في تفعيل اتفاقية 2004 مع قبرص، وهو ما تم بالفعل في 2013 بالاتفاق على قاعدة نهائية ملزمة للطرفين لتقاسم مكامن الغاز في المناطق الاقتصادية بين البلدين بسبب تداخل بعض العلامات الحدودية وصعوبة فصلها، الأمر الذي كان قد أدى سابقاً لانسحاب شركة "شل" ورفض بعض الشركات العالمية الأخرى توسيع أعمالها في مصر قبل تسوية المشاكل الحدودية حرصاً على أموالها، أخذاً في الاعتبار أن قبرص كانت قد سبقت مصر للاستثمار في تلك المناطق بواسطة شركة "إيني" الإيطالية التي تدير حالياً حقل ظهر المصري العملاق، وشركة "توتال" الفرنسية، وشركة "نوبل" الأميركية.

وكانت إسرائيل على رأس الدول المرحبة والداعمة لخطوة ترسيم الحدود البحرية بين مصر وقبرص، ليس فقط لأنها تكرس سيطرتها الفعلية على بعض حقول الغاز والعلامات المتداخلة في عمق المتوسط نتيجة أسبقية ترسيم المناطق الاقتصادية بين قبرص وإسرائيل، ولكن أيضاً لأن إغلاق هذا الملف يقرب أكثر من أي وقت مضى خطوة ترسيم الحدود البحرية بين مصر وإسرائيل، أو على الأقل الاتفاق على حدود المناطق الاقتصادية بينهما.


مصدر قضائي مصري شارك في أعمال لجان ترسيم الحدود البحرية في عهد المجلس العسكري، قال إن الاتفاقية الموقعة بين مصر وقبرص في 2013، المكملة للاتفاق الحدودي (2004)، ظلّت معلّقة طيلة 10 سنوات تقريباً، على خلفية شرط اقتسام المياه الاقتصادية بين البلدين بالتساوي، وهو ما أعلنت تركيا أخيراً معارضتها له، وردت مصر وقبرص بأن الاتفاقية مفعّلة ومودعة لدى الأمم المتحدة.
وأكد المصدر القضائي أن النظام الحالي سبق والتف على كل هذه المشاكل رغبة في الإسراع بالاستفادة اقتصادياً "من المناطق الاقتصادية الخالصة لمصر حتى ولو كان مشكوكاً في تعرضها للغبن بسبب التنسيق القبرصي - الإسرائيلي"، وآثر عدم الدخول في صراعات دبلوماسية أو قانونية تستغرق وقتاً طويلاً، ما يؤكد عدم استعداد السيسي للتراجع عن حسم ملف الحدود مع اليونان، الذي تتخوف منه تركيا، أملاً في جذب مزيد من الاستثمارات، حتى ولو كان سيتسبب في تفاقم التوتر السياسي مع أنقرة.

هزائم ومساومات

ويوضح تسلسل الأحداث منذ 12 عاماً، عندما وقّعت مصر اتفاق تصدير الغاز الطبيعي المصري إلى إسرائيل ومنح شركة الغاز الإسرائيلية إعفاء ضريبياً خاصاً لمدة 3 سنوات للمساهمة في شركة شرق البحر الأبيض المتوسط للغاز التي كان يديرها بشكل أساسي رجل الأعمال حسين سالم المقرب لمبارك، أن مصر تعرضت لصفعات أقرب للخداع، حتى وجدت نفسها مجبرة على التحوّل من دولة مصدرة للغاز إلى مستوردة للغاز الإسرائيلي تحديداً، ولتعطيل استفادتها المباشرة من حقول الغاز الواقعة في حدودها الاقتصادية.

ودفعت مصر أكثر من مرة ثمن مسارعة نظام مبارك إلى عقد ذلك الاتفاق مع إسرائيل بالمخالفة لإرادة الشعب المصري وعدم تحضير حاضنة شعبية لهذه الإجراءات، فبدأت الخسائر عام 2008 بصدور حكم قضائي بوقف تصدير الغاز لانخفاض السعر المتفق عليه عن المستوى العالمي، ثم في فبراير/ شباط 2010 أصدرت المحكمة الإدارية العليا، وهي أعلى جهة قضائية إدارية في مصر، حكماً نهائياً وباتاً بإلزام الدولة بإعادة النظر في الأسعار المتفق عليها وإلغاء الحد الأقصى لسعر التصدير المسترشد بسعر برميل البترول الخام، وذلك في ظل أزمة طاحنة ضربت البيوت المصرية بنقص أسطوانات الغاز في فصل الشتاء، ثم إقدام حكومة مبارك في صيف العام 2010 على قطع الكهرباء عن معظم مناطق الجمهورية ترشيداً لاستهلاك الكهرباء.

ونظراً لاتساع الهوة بين ما يترتب على التعاقد من تفريط في حقوق المصريين ومخالفة مزاجهم العام وبين الواقع الاقتصادي المؤلم، شهد العام التالي لثورة يناير/ كانون الثاني 2011 ظهور مطالبات عديدة بإلغاء الاتفاقية أياً كان الثمن، تبعتها وقائع عدة لتفجير الخطوط ناقلة الغاز لإسرائيل، وهو ما ترتب عليه خلاف حاد بين الحكومتين، إذ لم تلتزم إسرائيل بدفع الأقساط الشهرية المستحقة عليها بحجة عدم قدرة أو عدم إرادة مصر لوقف عمليات تفجير خطوط الغاز، حتى تم فسخ التعاقد من الطرف المصري في إبريل/ نيسان 2012.
وكانت النتيجة أن إسرائيل لجأت إلى التحكيم الدولي في اتجاهات عدة؛ منها مركز تسوية منازعات الاستثمار (إكسيد) عبر دعوى أقامها المساهمون الأميركيون في الشركة المستوردة.
كما لجأت شركة الكهرباء الحكومية إلى المحكمة الفيدرالية العليا السويسرية لتستصدر منها حكماً قياسياً بتغريم مصر 1.7 مليار دولار، وهو ما يفوق قدرة الحكومة المصرية على الدفع حالياً، ما أجبرها على اتباع إجراءات قانونية أكثر تعقيداً للطعن على الحكم، وملاحقة إسرائيل بدعاوى تحكيم أخرى.

على صعيد آخر، وبعد ثورة يناير ببضعة أشهر، انسحبت شركة "شل" من حقل "نيميد" المصري الذي منحتها حكومة كمال الجنزوري حق امتيازه عام 1999 بزعم تداخله التام مع حقل غاز أفروديت القبرصي الذي أعلنت نيقوسيا اكتشافه عام 2011، والذي تنشط فيه عمليات التنقيب والاستخراج وفق اتفاق سابق بين قبرص وإسرائيل، ما أدى لتعطيل الاكتشافات المصرية الكبرى في تلك المنطقة حتى أبرم اتفاق 2013 وحصل على مباركة إسرائيل.
ومع بداية 2017، وبالتزامن مع وضوح أن مصر لن تستفيد من حقل ظهر العملاق قبل عام 2022، بدأت إسرائيل تساوم مصر على تخفيض الغرامة الضخمة المحكوم بها، والتي تهدد المصالح المصرية وممتلكاتها في الخارج، فضلاً عن تمثيلها خطراً على سمعة مصر الاستثمارية ورسالة سلبية للمستثمرين الأجانب.

المصدر الدبلوماسي كشف أن التحرك الإسرائيلي كان يهدف إلى إغراء مصر بتخفيض الغرامة أو إلغائها بالنسبة لشركة كهرباء إسرائيل مقابل إبرام اتفاق مع الشركات المصرية لاستيراد الغاز الإسرائيلي المتراكم، وتم بالفعل عقد اتفاقات مبدئية مطلع العام الحالي، إلا أن استمرار تعثر الملف القانوني السابق ذكره دفع مصر لاتخاذ خطوة استراتيجية الصيف الماضي بمنع شركاتها من الاستيراد لحين حل قضايا التحكيم المختلفة بشأن الطاقة، وعلى رأسها القضية الإسرائيلية، وكان من بينها أيضاً بعض القضايا المرفوعة من شركات إسبانية وإيطالية مشاركة في مصانع الإسالة.

وأضاف المصدر أن الهدف الإسرائيلي الثاني حالياً هو الإسراع في ترسيم الحدود البحرية مع مصر، أو على الأقل تحديد نقاط التماس للمناطق الاقتصادية، وهو هدف أصبح ممكناً في الأفق حالياً، خصوصاً إذا وجدت الدولتان أنه يجب عليهما إنشاء شبكة أنابيب جديدة لنقل الكميات الهائلة من الغاز لمصر وإعادة تصديرها بعد إسالتها، وهو أمر سيتطلب بالتبعية تعميقاً للتنسيق العسكري والأمني والفني، لحماية المصالح الاقتصادية المشتركة، وهو ما يبدو نظام السيسي المتحمس للحليف الإسرائيلي على أتم الاستعداد له.

المساهمون