صفحات من دفتر أحوال المسرح المصري (4/6)

20 اغسطس 2020
+ الخط -

هل يحب جلال الشرقاوي صديقه القديم وابن أيامه نجيب سرور حقاً؟ أم أنه ما زال يحتفظ في قرارة نفسه بمرارة تجاه صد نجيب سرور له وإعراضه عن محاولات تودده إليه خلال أيام دراستهما في موسكو؟

سيواجهك هذا السؤال وأنت تقرأ مذكرات جلال الشرقاوي الشاسعة، برغم تأكيد جلال مراراً على حبه لنجيب سرور، لأن جلال الذي تعهد في مقدمة مذكراته أن يتجنب ما يمس حياة الآخرين الشخصية وما ينكأ الجراح ويؤذي النفوس، خالف هذا التعهد عندما تحدث عن الشاعر والكاتب والمخرج والممثل نجيب سرور، سواءً حين حكى عن علاقة نجيب بزوجته ساشا في موسكو، أو حين تحدث عن علاقة نجيب بممثلة أخرى قرر جلال أن يذكر اسمها، وقال إنه سيخالف تعهده لارتباط ما سيرويه بوقائع عمل فني أثار جدلاً ولغطاً شديدين، ولأن ما رواه ألقى المزيد من الأضواء على شخصية من أكثر شخصيات الثقافة المصرية إبداعا وغموضاً وإثارة للإعجاب والحسرة، سأشير إليه، دون أن أذكر اسم الممثلة التي تحدث عنها جلال في مذكراته.

يقول جلال الشرقاوي إنه منذ أن غادر موسكو إلى باريس، ظل يسمع أخبارا متناثرة عن نجيب سرور، مثل زواجه بالروسية ساشا وإنجابه منها ولداً أسماه شهدي على اسم شهدي عطية الشافعي المناضل اليساري الذي لقي مصرعه من فرط التعذيب في سجون عبد الناصر، ثم سمع عن طرد الحكومة الروسية لنجيب ليلجأ إلى المجر ويعيش في بودابست ثم ينتقل بين رومانيا وبلغاريا، ويعاني من التشرد والجوع خاصة بعد رفض الحكومة المصرية أن تجدد له جواز سفره، فتتوالى صيحات الاستغاثة من بعض مثقفي مصر في الجرائد والمجلات وعلى رأسهم الأستاذ رجاء النقاش لمناشدة السلطة للسماح له بالعودة إلى مصر، ليعود نجيب إلى وطنه بالفعل في نهاية 1964 بفضل تلك الحملة التي لم تغضب السلطة وإلا لما سمحت بها من الأصل، ويعهد إليه مسرح الجيب بإخراج مسرحية (بستان الكرز) للكاتب الروسي أنطون تشيخوف، ويتعاقد معه أيضاً على تأليف مسرحيته أو قصيدته المسرحية (ياسين وبهية).

رسالة إلى قلب حاتم

يقول جلال الشرقاوي إنه رحب بنجيب سرور بطريقته الخاصة عندما أخرج له مسرحيته تليفزيونياً دون الحصول على مقابل، ثم أعطاه دور بطولة في مسلسل أخرجه، وللأسف لا نعرف أين ذهب هذا المسلسل ولا لماذا لا تذاع تلك المسرحية المصورة، ويضيف الشرقاوي إن كثيراً من الأقلام والأفواه تبارت قبل عودة نجيب سرور إلى مصر وبعد عودته "وحتى يومنا هذا" ـ يقصد تاريخ نشر المذكرات في منتصف التسعينيات ـ في التفلسف حول كشف الغموض عن أسرار سفر نجيب إلى موسكو ورفضه العودة إلى مصر ثم عودته المفاجئة، ولكي لا تستمر المزايدة على نجيب سرور في الحاضر أو المستقبل، وحتى لا يسمح أحدهم لنفسه بأن يفتي ويستنتج كيفما شاء، قرر جلال أن ينشر في كتابه خطاباً/وثيقة نشره نجيب سرور في مجلة (الكواكب) بتاريخ 27 يوليو 1965 وجّهه إلى الدكتور محمد عبد القادر حاتم نائب رئيس الوزراء للثقافة والإرشاد القومي، وقد نشرتها مجلة (الكواكب) التي كان يرأس تحريرها رجاء النقاش تحت عنوان (رسالة إنسانية إلى قلب الدكتور حاتم.. هذا الفنان يتمنى أن يرى ابنه في عيد الثورة).

ترك نجيب تمثيل الدور الصغير الذي كان يقوم به في المسرحية، ليحل محله الممثل الشاب وقتها رشوان توفيق، ليعترف نجيب سرور لجلال فيما بعد أن زوجته الممثلة كانت الدافع لشحنه ضد جلال وضد سهير البابلي وضد العرض المسرحي

يروي نجيب سرور في الخطاب قصته التي يصفها بأنها "قصة حياة حافلة بصنوف العذاب والتمزق ثم التخبط على طول الطريق.. إنها رحلة مع الأخطاء ولكنها رحلة للبحث عن الحقيقة، ولم يكن ينقصني الإخلاص للحقيقة، ولكن كان ينقصني دائما التوفيق في العثور عليها"، ويقول نجيب في خطابه المرير إنه كان مصمماً على ألا يعود إلى مصر بعد أن رأى ما يعانيه أهله "من نير الإقطاع" ولإحساسه بالغربة والضياع في الوطن وغياب شعره ونقده عن منافذ النشر وعدم توفر فرصة لطاقته كممثل ومخرج، ليشعر أنه كائن زائد على الحاجة ولا لزوم له، ولذا كان السفر مهربه الوحيد من الاختناق، لتنقلب البعثة إلى منفى، لكنه أدرك بعد صدور قانون الإصلاح الزراعي الثاني وحركة الدفع الثوري أن الوطن والثورة هما الحقيقة الوحيدة الصلبة، وأن خريطة الحياة قد تغيرت، وتحول تصميمه على عدم العودة إلى تصميم على العودة، فسلم نفسه للسفارة المصرية وناشدها ترحيله إلى أرض مصر.

بعدها يقول نجيب سرور في خطابه المرير إنه بينما كانت غاية آماله أن يدفن في تراب مصر، إذ بحكومة الثورة تفتح له طريق العودة والعمل فتضرب له مثلاً في السماحة والكرم والنبل، لكنه يناشد الدكتور حاتم بوصفه أباً قبل أن يكون وزيراً أن يتوسط لدى المسئولين في مصر والمسئولين في الاتحاد السوفيتي لجمع شمله على أرض مصر مع ابنه شهدي البالغ من العمر أربعة سنوات والذي يعيش في موسكو مع زوجته السوفيتية، ويختم نجيب خطابه قائلاً: "وعندما يعود الوزير الأب الإنسان إلى بيته كل مساء، وعندما تستقبله بسمات أبنائه فأرجو أن يتذكر أن هناك أباً شاعراً فناناً يخشى المساء لأنه يخشى العودة إلى بيته الخاوي فيظل يدور في شوارع القاهرة قبل أن يعود إلى الوحشة والوحدة والخراب، إنكم أملي الوحيد والأخير وتحيات أب معذب إلى أب رحيم".

آه يا ليل يا نجيب

بعد هزيمة يونيو 1967 كتب نجيب سرور مسرحيته الشهيرة (آه يا ليل يا قمر) متأثراً بمرارة الهزيمة، ومقدماً الخيانة كتيمة رئيسية لمسرحيته، وبعد أن انتهى من تأليفها طلب من جلال الشرقاوي أن يقوم بإخراجها ضمن برنامج مسرح الحكيم لعام 67/68 قائلاً له إنه اكتفى من كرم مطاوع بإخراج مسرحية (ياسين وبهية) وأنه يريد جلال ليكون عيناً جديدة تخرج نصه، كما صارحه بأنه يريد أن يرد إليه جزءاً من جميله عليه في موسكو وفي القاهرة، ويريد أن يرى رؤيته الفنية هو بالتحديد، طبقاً لما يرويه جلال.

يحكي جلال أن نجيب قبل ذلك اللقاء بأشهر اتصل به في الرابعة فجراً ليوقظه بسبب شيئ وصفه بأنه غاية في الخطورة، ويستوجب زيارته له فوراً، وبعد ربع ساعة كان نجيب عند جلال وبدا أنه سعيد جداً، وقال له إنه يحب وعازم على الزواج بمن يحب، ثم طلب منه أن يخمن اسم محبوبته، وبعد أن غُلُب حمار جلال قال له إنها "فلانة الممثلة".

يقول جلال: "لا أخفي أنني لم أكن سعيدا بهذا الخبر فأنا أعلم نجيب جيداً كما أعلم فلانة أيضاً جيداً بطموحاتها الفنية، ونجيب بمزاجه المتقلب وسوداويته القاتمة وعنفه الشديد، هي بحياتها المتمردة المنطلقة، ونجيب بشكه المرضي وغيرته الجنونية الحمقاء، كما أنني أعلم أيضا بأن نجيب بموارده المحدودة وإسرافه غير المسئول لا يستطيع إقامة بيت تكون فلانة عضوا فيه، وهكذا أستطيع التنبؤ ببساطة أن هذا الثنائي لا يستطيع أن يعيش فترة طويلة في سلام وسعادة وأن حياتهما ستكون مضطربة ولا شك".

يقول جلال إنه صارح نجيب بهواجسه فابتسم قائلاً له: "خلّ عنك يا صاحبي إني أعلم هذا وأكثر منه.. لقد قصّت علي هي بنفسها بانوراما كاملة عن حياتها بكل تفاصيلها"، ثم اندفع في نبرة خطابية شديدة الحماس مضيفاً: "صدقني يا جلال إن فلانة ضحية ظروفها تماما كما كنت أنا ضحية ظروفي.. لقد وحدتنا قسوة الحياة وجمعتنا مرارة الأحاسيس"، يقول جلال: "وأدركت ساعتها مدى عبقرية فلانة، واستطرد نجيب قائلا: "نحن أبناء اليوم.. إني أحاسبها فقط منذ اللحظة التي ارتبطت فيها بها.. مالنا وللماضي؟"، وحمدت له هذا ولكني كنت واثقا في قرارة نفسي أن الحياة بينهما إذا بدأت فلا بد أن تكون قصيرة"، ثم يروي جلال إن نجيب اعترف له أنه حكى لهذه الممثلة كل ما دار بينهما في مساء نفس اليوم، وبعد يومين وجد جلال نفسه مدعوا لزواج نجيب على الممثلة في سهرة بملهى رمسيس بشارع الهرم، أحيته الراقصة جواهر صاحبة الملهى والتي كانت شهيرة وقتها.

عندما عهد نجيب إلى جلال بمسرحيته (آه يا ليل يا قمر)، قال له إنه كتبها وزوجته الجديدة أمامه في الحجرة التي كان يستأجرها بفندق في شارع عماد الدين، وأنه استوحى دور بهية من عينيها ولا بد أن تلعب هي بالتحديد هذا الدور، لكن جلال لم يكن مقتنعا بذلك لأنه يرى أن الدور أكبر من طاقاتها الفنية، ولأن ذلك سيفقد المسرحية كثيرا من الجماهيرية، لأن تلك الممثلة كانت اسما غير معروف وقتها بعكس سهير البابلي التي رشحها جلال للدور، وقامت بعدة بطولات في المسرح القومي، واقتنع نجيب أو رضخ للأمر الواقع، لكن الممثلة لم تنس لجلال ذلك، الموقف، وحين عرضت المسرحية بسهير البابلي ولاقت نجاحاً، ثارت غيرتها كما يقول جلال، فبدأت توغر صدر نجيب سرور ضده، فبدأ يثير الملاحظات بأسلوب جاف وحاد مركزاً على أداء سهير البابلي التي كانت تؤدي دور فلاحة من باريس على حد تعبير نجيب، رغم أن الشرقاوي يعترف أنه طلب منها ألا تؤدي الدور باللهجة "الفلاحي" بل باللهجة القاهرية المعتادة، لأنه ربما رأى أن ذلك الاختيار الفني سيجعل المسرحية أقرب إلى الجمهور القاهري.

وحين زادت المشادات بين نجيب وجلال، ترك نجيب تمثيل الدور الصغير الذي كان يقوم به في المسرحية، ليحل محله الممثل الشاب وقتها رشوان توفيق، ليعترف نجيب سرور لجلال فيما بعد أن زوجته الممثلة كانت الدافع لشحنه ضد جلال وضد سهير البابلي وضد العرض المسرحي، قائلاً له: "اعذرها يا جلال لقد كتبت آه يا ليل يا قمر على سريرها وقد عاشت كل كلمة فيها"، ليعقب جلال على ذلك بقوله "وقد عذرته وعذرتها.. رحمه الله وغفر لها".

لكن نجيب لم يكتف بالهجوم الشخصي على جلال وسهير، ولا بانتقادهما على صفحات المجلات والصحف، بل ذهب إلى صديقه كرم مطاوع ليستنجد به ضد جلال، واتفقا على أن يكتب نجيب مسرحية جديدة بعنوان (يا بهية وخبريني)، يقول جلال إن نجيب كتبها في أيام قلائل، وتناول فيها تمثيل وإخراج مسرحية (آه يا ليل يا قمر) بالنقد والتهكم الذي وصفه جلال بأنه وصل إلى درجة التجريح، حيث تم اختيار الممثلة عصمت محمود المتخصصة وقتها في أدوار الخواجات لتلعب دور الفلاحة وتقدم صورة مشوهة لأداء سهير البابلي، وعلى حد تعبير جلال: "هكذا استطاعت فلانة أن تأخذ بثأرها"، ويضيف: "كان بعض الفنانين يتندرون على مسرحية يا بهية وخبريني، فأطلقوا عليها اسم يا فلانة وخبريني على اللي قتل نجيب".

يقول جلال الشرقاوي إن المثقفين ـ هكذا دون تخصيص ـ اعتبروا أن ما ارتكبه نجيب سرور وكرم مطاوع بحق جلال الشرقاوي وسهير البابلي سقطة أخلاقية استحقت الصمت المطبق من النقاد، فلم يكتب عن مسرحيتهما الانتقامية إلا الدكتور عبد القادر القط وجلال العشري والدكتور أمين العيوطي، لكنه ولا دائم إلا وجه الله، ولأن هذا هو حال البشر عموما والمثقفين خصوصا، لم تدم إلى الأبد خلافات نجيب وجلال، فبعد عامين إلا قليلاً عادت علاقتهما سوياً، وعرض جلال على نجيب إخراج مسرحية (موتى بلا قبور) التي ألفها جان بول سارتر، فوافق نجيب، وكما يقول جلال: "عاد نجيب إلى صدري مرة أخرى مثقلاً بالجراح، كان قد اختلف مع كرم مطاوع مرة أخرى، وتحدث عنه بكثير من المرارة ولم يكن هذا مثيرا لدهشتي وأنا أعلم عن نجيب سرعة غضبه وسرعة رضائه، ثم إنه كان قد خرج من تجربة إخراج حديثة له بكثير من اليأس والإحباط مع مسرحية ميرامار التي أخرجها لفرقة المسرح الحر بعد أن هاجمها كثير من النقاد".

ولم تكن هذه نهاية قصة جلال الشرقاوي مع صديقه اللدود نجيب سرور، ففصلها الأخير أكثر مرارة وإثارة، كما سنرى في الأسبوع القادم بإذن الله.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.