صفحات من دفتر أحوال المسرح المصري (2/6)
بعد أن تخرج جلال الشرقاوي من كلية العلوم أصبح من حقه الالتحاق بمعهد التمثيل الذي كان قد بدأ ومقره في مدرسة الدواوين الثانوية بالمبتديان، ثم انتقل إلى مدرسة الفسطاط الثانوية بمصر القديمة، ثم إلى أحد القصور المؤممة بعد الثورة في شارع المعهد السويسري بالزمالك، قبل أن يستقر في مقره الحالي في أكاديمية الفنون بالهرم، ولكي ينفق جلال على نفسه عمل مدرساً للعلوم في الصباح وطالباً في المعهد بالمساء. كانت تجربة جلال في الدراسة بالمعهد سعيدة جداً، لدرجة أنه برغم قيامه بالتدريس في المعهد يرى أن المقارنة بين أساتذة المعهد زمان وأساتذة اليوم ـ وقت نشر المذكرات في منتصف التسعينيات ـ لن تكون في صالح أساتذة الحاضر. يتوقف جلال بشكل خاص عند الرائد المسرحي جورج أبيض الذي كان يحبه وينظر إليه طويلاً بتأمل ثم يقول له: "شرقاوي.. أنا شايف فيك شبابي"، وعند الرائد المسرحي فتوح نشاطي الذي تحول من أستاذ له إلى صديق يدعوه إلى منزله بشبرا ليقضيا ساعات في قراءة المسرح والبحث عن أفكار مسرحية، ومن الجيل التالي لجيل الرواد يتوقف جلال عند نبيل الألفي بلدياته وابن قرية سنهوا بمنيا القمح بمحافظة الشرقية والذي كان يقول له: "سنهوا أنجبت اثنين: فنانا كبيرا هو أنا ومشروع فنان هو أنت".
يتذكر جلال أن الفنان أبو بكر عزت كان منافسه الدائم في الدفعة فإذا كان جلال أول الدفعة كان أبو بكر ثانيها، أما فايز حلاوة زميل دفعته فيصفه بأنه كان طالبا كسولا لا يذاكر ولا يواظب، وكان جلال يذاكر له، كما كان يقوم بدور حلال العُقَد والمشاكل العاطفية الكثيرة لفايز دوناً عن أبناء دفعتهما التي ضمت أسماء مثل عبد الرحمن أبو زهرة وإسلام فارس وعثمان محمد علي وزين العشماوي وفاروق الدمرداش وكرم مطاوع والشاعر الكبير نجيب سرور الذي ارتبط جلال معه بصداقة طويلة ألقى عليها الكثير من الأضواء في مذكراته.
عودة بديع حسني
يروي جلال بعض التفاصيل عن تجربة التمثيل الإذاعي التي بدأت بها علاقته الاحترافية بالتمثيل، وعن نشاطه الفني في المسرح العسكري عندما التحق مجنداً بالجيش مع زميليه زين العشماوي ونجيب رشدي ـ الممثل ووكيل الوزارة بهيئة الكتاب فيما بعد ـ كما يروي الكثير عن التحاقه في عام 1954 باتحاد الممثلين الهواة قبل أن يتضح له عدم جدية الاتحاد وأن الذين أسسوه لم يكونوا إلا "مجموعة من الكومبارس أسسوا الاتحاد كبديل حضاري لقهوة بعرة" التي يجلس عليها الكومبارس والباحثون عن أي فرصة في عالم الفن مهما كانت صغيرة، لكن بعض هؤلاء نجح في الحصول على فرص فنية أكبر مثل المطرب محرم فؤاد ومخرجا التلفزيون أحمد الأباصيري ونظمي بغدادي والممثل نجيب عبده ـ لعلك تتذكر دوره المميز في مسلسل أرابيسك ـ ومحمد الشريف عميد المعهد العالي للسينما فيما بعد.
يتوقف جلال الشرقاوي عند واحد من أعضاء ذلك الاتحاد ارتبط معه بصداقة وثيقة هو بديع حسني ابن الموسيقار العظيم داود حسني، بدأت الصداقة بإعجاب جلال بفن والد بديع، ثم تطورت وأصبحت وثيقة، لكن لقاءاتهما تقطعت بعد دخول جلال إلى الجيش، ومع أول تصريح له بالخروج في أجازة، ذهب جلال إلى الاتحاد ليسأل عن صديقه بديع، "فجاءت الإجابة صدمة رهيبة، لقد هاجر إلى أثينا ثم إلى إسرائيل، لقد كان يهودي الديانة"، وهي معلومة لم يكن جلال يعرفها برغم صداقته الوثيقة ببديع وتقديره لفن والده.
كان جلال الشرقاوي حريصاً على أن يراسل أساتذته وأصدقاءه بشكل منتظم، وفي إحدى رسائل أستاذه زكي طليمات إليه، نصحه بأن يتلقى دروساً خاصة في فن التمثيل على يد الأستاذ دني دنيس أحد مشاهير المسرح الفرنسي
بعد 22 سنة من هجرة بديع إلى إسرائيل، فوجئ جلال الشرقاوي في مساء يوم 8 يوليو 1979 برسالة تُركت له في المسرح موقعة من بديع حسني يطلب فيها رؤيته، أعقبتها مكالمة من بديع يطلب فيه رؤية جلال، وحين سأله جلال: من أين تتكلم؟ قال له: "من القاهرة من أوتيل مينا هاوس، لقد حضرت مع الوفد الإسرائيلي لمفاوضات السلام"، وهي إجابة جعلت جلال يحس أن "جبلاً شاهقاً جثم فوق صدري"، وعنما حضر بديع إليه استقبله جلال ببرود أحس به بديع، وتبادلا المجاملات بفتور، وقال له بديع إنه يعمل مديراً بإذاعة الشباب الإسرائيلية بتل أبيب، وأنه يتابع أخبار جلال الفنية بدقة، وبعد حديث فاتر قصير انصرف بديع، ليصف جلال موقفه بعد ذلك بقوله: "انهرت على كرسي المكتب وقد امتلأت عيناي بالدموع فجأة، هل هي دموع تنعي حباُ وصداقة ماتت، أم هي دموع هم وأسى لا يبدو له نهاية، والآن أسأل نفسي: هل يستطيع الزمن حقاً أن يحطم الحاجز النفسي؟ لست أدري".
نجيب وساشا
تقدم جلال الشرقاوي في عام 1959 إلى مسابقة بعثتي الإخراج والتمثيل للدراسة في الإتحاد السوفيتي، وفاز بالمركز الأول في المسابقتين، وكان الثاني في مسابقة التمثيل نجيب سرور، وفي مسابقة الإخراج أحمد زكي ـ وهو للتذكير غير أحمد زكي الممثل الشهير ـ وكان لا بد أن يختار جلال بعثة من الاثنتين، فاختار الإخراج ليسافر معه في بعثة التمثيل نجيب سرور، مع أن نجيب كان قد قال لجلال إنه يظن أن الحكومة لن تسمح له بالسفر لأنه مسجل في القوائم السوداء، وراهنه جلال على عشرة جنيهات أن ذلك لن يحدث، وحين أقلعت الطائرة بالاثنين متجهة إلى موسكو أخذ نجيب سرور يصرخ في شبه هستيريا ـ طبقاً لوصف جلال ـ "مش ممكن.. مش معقول"، ولا ينسى جلال أن يشير إلى أن نجيب لم يسدد له ذلك الرهان إلى أن توفي إلى رحمة الله.
وصل المبعوثان جلال ونجيب بعد رحلة طويلة إلى موسكو ليقيما في المدينة الجامعية الضخمة التي يصفها جلال بأنها كان مسموحاً فيها بممارسة الحب وممنوعاً فيها شرب الخمور ما عدا البيرة، ويقول جلال إن نجيب بعد وصوله إلى موسكو بـ 48 ساعة ظهر متأبطاً ذراعي فتاتين روسيتين هما أزولدا وساشا، لكن علاقته بساشا تحولت من علاقة عابرة إلى علاقة زوجية، وهي التي أنجبت له ولديه. لكن ليالي موسكو لم تكن كلها مخصصة للحب والبيرة، بل كانت مخصصة لتعلم اللغة الروسية والدخول في مناقشات طويلة حول التدين والإلحاد، والتعرف على الحياة في الاتحاد السوفيتي، وتفاصيلها، ورغم أن جلال كان يرى أن الظروف كلها تحتم أن يكون نجيب سرور صديقاً حميماً له، إلا أنه شعر بعد شهر من إقامتهما بموسكو أن بينهما مسافات شاسعة، لأن نجيب شكاك بطبعه ومتوجس ومنطو وغضوب وعندما يغضب يخطئ خاصة أثناء دروس اللغة الروسية، وتألم جلال بسبب ابتعاد نجيب عنه، خصوصاً أنه كان قد التزم أمام والد نجيب وأمام أستاذهما عبد الرحيم الزرقاني أنه سيرعى نجيب رعاية الأخ الشقيق وهو ما لم يستجب له نجيب الذي يقول جلال إن ساشا استحوذت عليه روحياً وذهنياً وجسدياً، ونجحت في نفيه عن جميع أصدقائه فأصبح خالصاً لها طبقاً لتوصيف جلال العجيب.
يروي جلال أنه ذهب ذات مرة للعشاء مع نجيب وساشا، واحتدم النقاش بين نجيب وساشا التي شتمت نجيب على طريقة المثقفين فوصفته بأنه "جان فال" إشارة إلى بطل مسرحية الطابق السادس الذي كان ضعيفاً لا موقف له، فرد عليها نجيب بقاموس الشتائم المصري الأبيح، ليجعل منهم فرجة لزبائن المطعم الروسي، وينصرف نجيب غاضباً وجلال وساشا يجريان خلفه لإعادته إلى المطعم، وعندما وصل الثلاثة إلى الجامعة طرد نجيب ساشا من حجرته، وحين حاول جلال تهدئة الأمور فوجئ بنجيب يقول له غاضباً: "أنتم الذين أفسدتموها عليّ.. إن كل العرب يحاولون أن يصدقوها.. وكنت أنت الوحيد الذي لم يحاول ذلك إلى أن فاجأتني ساشا أمس أنك حاولت ذلك"، وهدد نجيب جلال بالضرب، فخرج جلال من الغرفة بعد أن قال له: "لم أكن أعلم أنك بهذه القذارة".
تأثر جلال بما حدث وقرر الابتعاد عن نجيب، لتبلغه فيما بعد احتكاكات نجيب التي تواصلت مع زملائه المصريين والعرب بسبب ساشا، وبعد فترة من الابتعاد وجد جلال ساشا تدق بابه وتدعوه لزيارة نجيب الذي يمر بمرض شديد، ويهذي مردداً اسم جلال، فذهب جلال مسرعاً لزيارته، وفور أن رآه نجيب طلب من ساشا أن تتركهما منفردين، وأخذ يعتذر بشدة لجلال ويحكي له عن طفولته القاسية في القرية، وكيف شاهد العمدة يقذف أباه بالحذاء، وهي الواقعة التي كتب نجيب عنها قصيدته (الحذاء) تعبيراً عن تأثره الشديد بها، كما حكى له عن قسوة أبيه في معاملة أمه وزوجة أبيه، وكيف كان أبوه مسئولاً عن وفاتهما المبكرة، وأنه كان يحس تجاه أبيه بعاطفة شحيحة لم تتوهج إلا قبل سفره إلى موسكو، ثم قرأ له قصيدة كتبها أبوه الذي كانت له محاولات شعرية كثيرة، وحدثه نجيب أيضاً عن رعبه من الموت، وأخذ يردد في شبه هذيان مونولوج هاملت الشهير: "أكائن أنا أم غير كائن".
قال نجيب لجلال إنه كان يريد أن يكتب إليه خطاباً لكن حالته الصحية منعته، وطلب منه أن يحضر ورقة وقلماً ليمليه خطاباً على نغمات السيمفونية السادسة لتشايكوفسكي، وبدأ نجيب يملي على جلال خطاباً طويلاً يعترف فيه بخطئه تجاه جلال، ويعرب عن تمنيه أن يستأنف الاثنان مشروع الصداقة بينهما، معترفاً أنه ليس حسن الظن في أحد، لأن التجارب علمته خيبة الأمل في الكثيرين، وأنه يحاول جاهداً إلغاء المسافة بينه وبين جلال، وبعد أن انتهى نجيب من الخطاب لم يترك له جلال فرصة للتراجع "عن أقواله"، فطلب من نجيب أن يوقع على الخطاب، وكأنه كان يتوقع أن يتراجع عنه في المستقبل، وحين قام نجيب بالتوقيع على الخطاب بأصابع مضطربة، غلبت الدموع جلال، وغلب النوم نجيب، ليخرج جلال فيجد ساشا واقفة في الممر تنتظر انتهاء ذلك المشهد المسرحي العجيب.
بعد أسابيع من تلك الليلة، تمت دعوة الطلاب المصريين المبتعثين إلى الإتحاد السوفيتي للسفر إلى القاهرة لحضور مؤتمر ثقافي للطلاب المبعوثين إلى الخارج يحضره وزير التعليم كمال الدين حسين عضو مجلس قيادة الثورة، ليفاجأ جلال بأن نجيب يرفض السفر معتبراً أن هذا المؤتمر ليس إلا لعبة دبرتها الحكومة المصرية لغرض واحد هو إعادته إلى القاهرة واعتقاله بعد أن أفلت من قبضتها في المرة الأولى، وحاول جلال إقناعه بأن هذه الأفكار ليست سوى أوهام في رأسه، فقال له نجيب "إن قصائدي في مكاتبهم وكلها تدين النظام"، ثم انهار نجيب في نشيج محمود قائلاً: "قتلوا شهدي عطية الشافعي في السجن"، وكان نجيب متأثراً بما جرى لشهدي عطية الذي لقي مصرعه أثناء تعذيبه في السجن، وقد أطلق اسم شهدي على ابنه الأكبر فيما بعد.
حين عاد جلال إلى القاهرة ذهب لزيارة محمد سرور والد نجيب في منزله بشارع ربيع الجيزي، وتألم الأب لقرار ابنه بعدم الرجوع إلى مصر، وحمّل جلال خطاباً إلى نجيب، وحين عاد جلال إلى موسكو بدأ في إجراءات تحويل بعثته إلى فرنسا لأنه يرغب في الاستفادة أكثر، وقرر أن يبدأ في عمل إجراءات التحويل لنجيب سرور أيضاً، لكن نجيب أصر على عدم مغادرة موسكو، رغم أن المستشار الثقافي المصري وافق على تحويل بعثته إلى باريس دون أن يشترط عودته إلى مصر، وحين حاول جلال إقناع نجيب بالذهاب معه إلى باريس صرخ فيه ثائراً: ".. سيعلمون كل شيئ.. إنهم يراقبونني ولن أفلت من إيديهم، أما هنا فأنا في مأمن منهم، قل لي يا جلال هل أنت ساذج حتى يخدعوك بهذه الرواية، أم أنت متآمر معهم؟"، لم ينفعل جلال وكظم غيظه، واستمر في محاولة كسب ثقة نجيب الذي رفض تغيير رأيه رغم أن السفارة المصرية في موسكو توعدته بسحب جواز سفره وتجريده من الجنسية، فكان رد نجيب "لا يهم"، وهو موقف لم يتعامل معه جلال بوصفه تحدياً لإرادة السلطة، بل تساءل عما إذا كان بسبب "اعتناق نجيب للشيوعية أم أن هروبه من مصر كان لأسباب سياسية أو أسباب أسرية أم لدراسة الأدب الروسي أم بسبب ساشا؟".
غادر جلال الشرقاوي موسكو إلى باريس تاركاً نجيب في أحضان ساشا التي صارت أسرته وكل حياته، بينما ترك جلال خلفه ظهره محبوبة اسمها أنّا، يعترف أنها تركت بصماتها على روحه، لكنه اختار تفضيل مستقبله العلمي عليها، ورفض الزواج منها والبقاء في موسكو، وإن كان احتفظ بدبلة ذهبية أعطتها له، واستمرت في إصبعه حتى عندما تزوج زميلته في البعثة بفرنسا ظل محتفظاً بالدبلة، وعندما تزوج للمرة الثانية طلبت منه زوجته أن يخلع الدبلة، فأعطاها لأمه التي استمرت تلبسها حتى توفيت، وحين حاول جلال على مر السنين أن يلتقي بمحبوبته الروسية أو يتصل بها فشل في ذلك، بل ولم يتلق أي رد منها على خطاباته، ويبدو أن قصتها ظلت تمثل جرحاً غائراً في نفسه، لأنه غضب بشدة حين كتبت عن هذه القصة في جريدة (القاهرة)، وعلقت على هذه القصة قائلاً: "ولعلها كسبت أو لعله كسب"، وهو تعليق أعتقد الآن أنه لم يكن يليق في حضرة قصة حب كهذه، وإن كنت بعد مرور كل هذه السنين وبشكل علمي بحت، أميل إلى أنها ربما هي التي كسبت، لأن جلال الشرقاوي قام بوضع همه العاطفي في مسرح الفن، وربما لو كان تحقق عاطفياً لما تمكن من إنجاز كل هذه المسرحيات التي جعلت البعض يغيرون اسم المسرح ساخرين فيصفونه بأنه (مصرع الفن).
الوقت يا سي جلال
في باريس وجد جلال الشرقاوي متنفساً لميوله الفنية بين المسارح العريقة والمعاهد الفنية، لكنه قرر فجأة أن يدير ظهره للمسرح، ويدرس الإخراج السينمائي ويحول مسار بعثته، لكن إدارة البعثات بالقاهرة رفضت طلبه، فنصحته سيدة فرنسية بأن يستعين بالكاتب المسرحي الكبير توفيق الحكيم الذي كان وقتها مندوب مصر الدائم بهيئة اليونسكو التي يقع مقرها في باريس، وطلب جلال من توفيق الحكيم أن يعطيه ساعة ليحكي له مشاكله، فقال له الحكيم: "ياه ساعة بحالها.. ليه؟"، ففوجئ جلال بالرد وارتبك وهو يحاول أن يحكي حكايته في تركيز شديد، وبعد أن انتهى من عرض مشكلته، نظر الحكيم إلى ساعته وقال له: "شوف.. آديك عرضت مشكلتك في 12 دقيقة وليس في ساعة كما كنت تطلب.. الوقت يا سي جلال الوقت"، ولم يكتف الحكيم بهذا الدرس الدرامي البليغ، بل ساهم في حل مشكلة جلال بمساعدة من الدكتور عبد العزيز القوصي المستشار الثقافي المصري باليونسكو، ليدخل جلال المعهد العالي للدراسات السينمائية في باريس كطالب منتظم.
كان جلال الشرقاوي حريصاً على أن يراسل أساتذته وأصدقاءه بشكل منتظم، وفي إحدى رسائل أستاذه زكي طليمات إليه، نصحه بأن يتلقى دروساً خاصة في فن التمثيل على يد الأستاذ دني دنيس أحد مشاهير المسرح الفرنسي، وتلقى جلال مع زميله فاروق الدمرداش دروساً خاصة على يد ذلك المسرحي القدير الذي كان قد تجاوز الخامسة والسبعين من عمره، وحين تأخر فاروق في حضور الدرس الأول لمدة 5 دقائق رفض استقباله ليكون ذلك الدرس الثاني الذي يتلقاه عن أهمية الوقت، وحين انتظم جلال في حضور دروسه معه، بدأ الممثل الفرنسي يحدثه عن ذكريات زيارته لمصر عام 1948، وعن إعجابه بعلي الكسار ونجيب الريحاني كنموذجين متميزين لممثلين مصريين شعبيين، بينما لم يعجبه الفنانون المصريون المقلدون لفناني أوروبا، ملمحاً إلى جورج أبيض بالتحديد وقائلاً لجلال: "ما أهمية لويس أو عطيل أو هاملت للشعب المصري، هذا نوع من الترف والرفاهية لا يحتاجه الشعب المصري، إنك مهما أجدت التمثيل بالفرنسية فلن تكون ممثلا فرنسيا بلحمك وروحك وطبيعتك في يوم من الأيام، خذ من هذه الفنون ما استطعت ولكن عندما تعود إلى وطنك لا تقدمها هكذا فنا فرنسيا، لأنك إن فعلت ستكون بعيدا عن وطنك وناسك وأهلك، ولكن اطبخ ما تشاء من هذه الفنون وقدمها في طبق مصري صميم"، وهو درس مهم أعترف أنني تأثرت به بشدة حين قرأته، خاصة أننا كنا مبتلين وقتها بصعود موجات التقليد الأعمى للنزعات التجريبية والعبثية التي تقدم بعبلها دون هضم ولا طبخ ولا وعي، وإن كنت أميل الآن إلى أن من حق من شاء أن يقدم رؤيته للفن كيفما يشاء ودون معايير مسبقة، وأن علينا أن نحترم فكرة التنوع ونترك الحكم للجمهور الذي ينقسم إلى شرائح مختلفة الأفهام والأذواق، وليس من حق أحد أن يفرض عليها ما يتصور أنه الأفضل فنياً.
...
نكمل قراءة المذكرات في الأسبوع القادم بإذن الله.